ورغم أنّ طهران قد تمهّلت كثيراً في تعليقها على هذا الخبر، إلّا أنّ إعلان وزارة الدفاع الروسية عن تحرك هذه القاذفات، بالفعل، لتوجيه ضربات لمواقع في سورية يعني أن إيران قد فتحت أجواءها لمساعدة المقاتلات الروسية على التوجه إلى أهدافها بزمن وكلفة أقل.
في السابق، كانت القاذفات الروسية، من الطّراز ذاته، تنطلق من قاعدة "أوسيتيا" الشمالية، الواقعة جنوبي روسيا، لتعبر بحر قزوين ومناطق من إيران والعراق، قبل وصولها إلى سورية؛ حيث توجد قاعدة حميميم الجويّة، والتي علقت وزارة الدفاع الروسية عليها قائلةً إنها غير مناسبة لاستقبال القاذفات كبيرة الحجم، غير أنّ الواقع الجديد يعني أنّ انطلاق تلك القاذفات من همدان الإيرانية سيختصر عليها ضعف المسافة فبدلاً من 2100 كيلومترٍ كانت تقطعها سابقاً سيكون أمامها اليوم 900 كيلومترٍ فقط قبل الوصول إلى أهدافها في سورية.
وكانت وكالة "انترفاكس" الروسيّة قد نقلت عن مصدر عسكري روسي، في وقت سابق، تأكيدَه أن موسكو طلبت من كل من إيران والعراق السماح لها باستخدام مجالهما الجوي لعبور صواريخ "كروز" نحو الأهداف في الأراضي السورية.
أمّا التعليق الإيراني الرسمي الأول فجاء على لسان أمين مجلس الأمن القومي الأعلى، علي شمخاني، والذي لم يتحدث عن التفاصيل، لكنه قال إن "تبادل الإمكانات" بين إيران وروسيا سيبقى مستمراً إلى حين القضاء على الإرهاب، معتبراً أن التعاون بينهما "هو الذي عقّد الظروف على الإرهابيين"، على حد وصفه.
كلُّ ذلك يعني، بالدرجة الأولى، أن الاجتماع الأمني التنسيقي الذي استقبلته طهران في يونيو/حزيران الماضي، بين وزراء دفاع إيران وروسيا وسورية قد بدأ يؤتي ثماره، فالاجتماع انعقد، في حينها، بعدما وجّه وزير الدفاع الإيراني، حسين دهقان، دعوة لنظيره الرّوسي، سيرغي شويغو، والسّوري، فهد جاسم الفريج، لعقد اجتماع لمناقشة أبرز التطورات الميدانية في سورية وبحث سبل تطوير التعاون، وخرج بإعلان أكّد على نية هذه الأطراف الثلاثة رفع مستوى التنسيق بينها.
إلى جانب ذلك؛ فقد زار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، العاصمة باكو، في وقت سابق من الشهر الجاري، للمشاركة في قمة روسية إيرانية أذربيجانية بحثت بشكل رئيس تطوير التعاون الاقتصادي. والتقى على هامش القمّة بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، وأكّدا معاً على أهمية العلاقات بين الطرفين، والتي اعتبرها روحاني "استراتيجيّة"، واصفاً تعاونهما في سورية بـ"الجيد"، كما أشار الرئيسان إلى ضرورة رفع مستوى التنسيق ثنائياً وإقليمياً في ما يخص الملف السوري.
كل هذا جاء قبل زيارة للمبعوث الروسي لشؤون الشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، إلى طهران، أمس الإثنين، والتي التقى خلالها بوزير خارجية البلاد، محمد جواد ظريف، وبرئيس الدائرة العربية والأفريقية في الخارجية الإيرانية، حسين جابري أنصاري، فجاءت أولى النتائج العملية بإعلان وزارة الدفاع الروسية، رسميّاً، عن استخدام المجال الجوي الإيراني لشن ضربات على مواقع في سورية.
ورغم أن التصريحات حول هذه الزيارة، بالذات، خرجت على لسان أنصاري وحده إلّا أنّها كانت كافية لتدلّ على أن التنسيق يتجه نحو مستوى أعلى، سواء التنسيق الثنائي الإيراني الروسي، أو حتّى التنسيق الذي سيضم طرفا ثالثاً، ألا وهو تركيا، ليكون هذا الأمر، تحديداً، حصيلةً للمصالحة التركية الروسية في سان بطرسبرغ أوّلاً، ولزيارة ظريف لأنقرة قبل أيام ثانياً.
وقد أعلن أنصاري، عقب لقائه ببوغدانوف، أنهما بحثا تطورات الوضع الميداني في حلب على وجه الخصوص، كما أكّد أن بلاده تجري مفاوضات في الوقت الراهن مع كل من روسيا وتركيا حول الملف السوري، قائلاً إنه من المحتمل أن تنضمّ أنقرة لتحالف طهران وموسكو في سورية.
وخلال تصريحاته هذه، والتي نشرتها المواقع الرسمية الإيرانية، أشاد أنصاري كثيراً بالعلاقة مع تركيا، واصفاً إياها بـ"اللاعب الإقليمي المؤثر الذي من الممكن أن يغيّر مسار الأمور".
ورغم الاختلاف في وجهات النظر بين طهران وأنقرة حول ما يجري في سورية، والموقف من رئيسها بشار الأسد إلّا أنّ الطّرفين استغلّا كل مناسبة للتأكيد على استراتيجية العلاقات، ولعلّ أقرب مثال على ذلك، هو التعاون الذي أبدته إيران خلال المحاولة الانقلابية العسكرية الفاشلة، والتي يبدو أنّ طهران، ومعها موسكو، تحاولان الاستفادة من تبعاتها بشدّ أنقرة أكثر نحوهما، لا سيما بسبب التوتر الحاصل بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية الحاضنة للداعية التركي المعارض فتح الله غولن.
أنصاري أكّد أيضاً، عقب لقائه بوغدانوف، أن إيران وتركيا اتفقتا خلال زيارة ظريف على نقاط أساسية تتعلق بإطار الحل المقترح لسورية؛ وأولها التأكيد على ضرورة حفظ وحدة الأراضي السورية، وثانيها العمل لتشكيل حكومة وحدة وطنية.
وعن هذه الأمور، قال رئيس تحرير القسم العربي في وكالة "مهر" الإيرانية للأنباء، محمد مظهري، لـ"العربي الجديد"، إن "بين إيران وتركيا تقاطعات ومصالح مشتركة عديدة في المنطقة وفي الشرق الأوسط ككل، وهي التي باتت أكثر وضوحاً بعد حصول تغيّرات كان آخرها المحاولة الانقلابية في تركيا، والتي أكدت لتركيا أنّ إيران معنية بدعمها، وأنّها تعتبر حليفاً إلى جانبها رغم الاختلاف في وجهات النظر".
وعن محاولات تقارب المحور الإيراني الروسي نحو تركيا، توقّع مظهري أن يتمّ تشكيل صيغة لتحالف رباعي، قد تكون العراق جزءاً منه أيضاً، لا سيّما مع وجود توقعات بابتعاد تركيا عن أميركا، ما يعني توجّهاً أكبر نحو روسيا.
وفي سؤال عن صيغة الحل المتوقعِ طرحُها من قبل هذه الأطراف، لا سيما في ظلّ الإصرار التركي على معارضة وجود الأسد قال مظهري إنه يتوقع حصول تغييرات جديدة، خصوصاً مع وجود مشاورات مستمرة بين الجانبين التركي والإيراني، وارتفاع مستوى التنسيق الإيراني الروسي.
وفي سياق متصل، قال الخبير في الشأن السياسي الإيراني، عماد آبشناس، في حديثه لـ"العربي الجديد، إن زيارة بوغدانوف، وإن جاءت بغية استمرار التنسيق الأمني والعسكري بين طهران وموسكو، إلّا أنّها أيضاً ترتبط ارتباطاً مباشراً بتركيا أيضاً، والتي باتت ذات توجّه أكثر اعتدالاً في سياساتها إزاء الملف السوري، حسب رأيه.
وأوضح آبشناس أنّ هناك مفاوضات مستمرة بين الطرفين الإيراني والتركي من جهة، والإيراني والروسي من جهة ثانية، قائلاً "إنها لم تصل لنتائج عملية حتى اللحظة، لكن من الواضح أن مستوى التنسيق قد ارتفع بالفعل".
كما ذكر أنه "مثلما استطاعت إيران أن تتقارب مع تركيا في ما يتعلق بسورية، فإن روسيا على تعمل على ضفة أخرى؛ ألا وهي ضفة المعارضة السورية، إذ إن الحديث عن زيارة بوغدانوف للدوحة ولقائه ببعض شخصيات المعارضة، قد يكون المقصود من ورائه الوصول إلى المعارضين الأكثر اعتدالاً، والذين قد يوافقون على الجلوس على طاولة الحوار مع وفد الحكومة السورية لاحقاً.
من ناحية ثانية، لا يغيب عن كلّ هذا التنسيق وجود قلق مشترك قد يجمع هذه الأطراف الثلاثة؛ فلا يخفى على أحد منهم وجود دور أميركي في مناطق شمالي سورية، حيث دخلت الولايات المتحدة على الخط من خلال الأكراد، وهو ما يقلق تركيا وإيران على حد سواء، فوجود كيان كردي مستقل شمالي سورية يعني تهديدات مستقبلية من قبل أكراد إيران وتركيا.
وبخصوص هذا الأمر تحديداً، ذكر آبشناس أن "الأتراك قبلوا، على مضض، المشروع الأميركي لتسليح الأكراد، لكن هذا لا يعني أنهم راضون، وهذا بحدّ ذاته ما يسمح بتقارب إيراني تركي، حتى بوجود خلافات على ملفات أخرى تعني سورية".
وعن الموقف الروسي من الأمر يعتبر الخبير نفسه أن مخطّطات التقسيم هذه لا تصبّ في مصلحة أي طرف من الأطراف الثلاثة، وهو ما يعني أن روسيا ستدعم، في المقابل، الرغبة التركية الإيرانية في ما يتعلق بالأكراد، حسب رأيه.
وبوجود كل هذه التفاصيل، يبدو أن المصالح المشتركة، سواء الاقتصادية أو السياسية منها؛ تجعل التقاطعات بين هذه الأطراف في ازدياد، وذلك على الرّغم من وجود اختلافات فيما بينها بشأن قضايا محدّدة دون أخرى، فـ"تحالفات الضرورة"، كما يبدو، باتت تأخذ مساراً أكثر وضوحاً بين إيران وتركيا وروسيا.