إنقاذ الرأسمالية.. من أجل الأغلبية

13 أكتوبر 2018
+ الخط -
كتاب جيد قرأت عنه عدة تقارير صحافية قبل عامين، ولكن انتبهت إليه مرة أخرى، عندما صدرت عنه عدة أفلام وثائقية، إنه كتاب" إنقاذ الرأسمالية" لروبرت رايش، وهو أستاذ السياسة العامة والاقتصاد في جامعة كاليفورنيا - بيركلي، وأيضا شغل منصب وزير العمل في عهد تولي بيل كلينتون رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، والذي حاول الضغط من الداخل لاتخاذ إجراءاتٍ بهدف تحقيق مزيد من العدالة، وتقليل التفاوت بين الرواتب في الولايات المتحدة، هو كاتبٌ محسوبٌ على تيار "الطريق الثالث" الذي يفضّل العمل من داخل المنظومة وإجراء إصلاحاتٍ قد تبدو محسوبة على التوجه الاشتراكي، أو بمعنى أصح بديلا ثالثا بين الرأسمالية والاشتراكية، بهدف جعل النظام الرأسمالي أكثر عدالةً وأقل توحُّشا.
كان روبرت رايش يرى أنه كانت هناك فرصة في عهد كلينتون لتحقيق التنمية المنسجمة مع العدالة، وتحقيق نمو مع إشراك الناس في هذا النمو. في عهد كلينتون كانت هناك إجراءات كثيرة لتقليل الفارق الشاسع بين الرواتب. يتقاضى المديرون التنفيذيون رواتب بملايين الدولارات، وأيضا يحظون بإعفاءات ضريبية، في حين أن رواتب الموظفين العاديين عدة آلاف، ويدفعون رواتب ومستقطعات ضخمة، مثل الإعفاءات الضريبية للاستثمارات الضخمة، بحجة تشجيعها. وبالطبع، لم تعجب هذه الإجراءات قطاعاتٍ عديدة ووزراء داخل الحكومة نفسها، فقاوموه بشدة، وعرقلوا كثيرا من مجهوداته التي كانت تسعى إلى مزيد من العدالة.
يتحدث الكاتب من منطلق إنقاذ الرأسمالية نفسها، وليس استبدالها بنظام اشتراكي، أو ما شابه. 
وفي وجهة نظره، تدمّر الرأسمالية الآن نفسها بنفسها، وسيكون إنقاذها عن طريق جعلها تعمل لصالح الأغلبية وليس الأقلية، كما هو الحال، فالنظام العالمي الآن يدعم الرأسمالية الحرّة بشكل مطلق، والتي لا يجوز التدخل فيها، كما أن النظريات النيوليبرالية (بدأت مع تاتشر وريغان والمحافظين الجدد) يروّجون ضرورة ابتعاد الدولة، وعدم تحكمها في الاقتصاد ورؤوس الأموال، فحرية انتقال رؤوس الأموال تؤدي إلى ازدهار الاستثمارات، وظهور فرص العمل وزيادة الدخل، تحقيقا لنظرية آدم سميث بأن رؤوس الأموال لا بد أن تكون حرّة، وأن الرأسمالية تصحح نفسها بنفسها، ولكن الكاتب يزعم أن ما يحدث يختلف عن ذلك، فلا يوجد الآن اقتصاد حر بالمعنى الذي يتم تسويقه، بل هناك قلة تضع القوانين وقواعد اللعبة. وفي حقيقة الأمر، هناك مجموعات لا تمثل إلا 1% من المجتمع، هي التي تضع قواعد السوق والاقتصاد الذى يتم تطبيقه على 99% من البشر.
في واقع الأمر، لا توجد ما تسمى السوق الحرة من الأساس، فمن الذي يضع قواعد اللعبة وقوانين السوق الحرّة؟ الضرائب والاستقطاعات والموافقات والتصاريح وقواعد التجارة والاستثمار، قواعد إشهار الإفلاس مثال على ذلك، فهي مسموحٌ بها للأغنياء والمؤسسات الكبرى والبنوك ورجال الأعمال، من أجل إنقاذ أنفسهم، في حين أنها غير قانونية على صغار المستثمرين أو المتعثرين أو العاجزين عن سداد أقساط المنزل والسيارة والقروض الصغيرة، فمصير هؤلاء السجن.
أما اهتمامات الناس وأولوياتهم لم تتغير منذ عشرات السنين، مطالب الأغلبية بسيطة، وهي أن يعيشوا في أمان، وقواعد السوق تصب في مصلحة القلة الحاكمة، النظام العالمي يجعلك تسير مثل "الثور في الساقية"؛ تدور حول نفسك، وتصل الليل بالنهار في العمل، من أجل قسط السيارة وقسط الشقة الأكبر وقسط المدارس، ثم تبحث عن عملٍ إضافيٍّ لسداد قروضٍ جديدةٍ ترتبت على القروض السابقة، والتأخر في سدادها.
ينمو الاقتصاد العالمي. ولكن، في الوقت نفسه، تتضاءل الرواتب، وتقل فرص العمل، وتتآكل الطبقة الوسطى، وتزداد الفجوة، وتتراكم الثروة إلى الأعلى، تدعم أصحاب السلطة، فتزداد السلطة قوة، وتزداد دعما لأصحاب الثروات، اللوبيهات ومراكز الضغط هم من يتحكّمون في البرلمان، ويدعمون أسماء ووجوها، لتكون في مراكز صنع التشريعات، فيصنعون تشريعاتٍ لحماية استثماراتهم. يحيل الكاتب ذلك إلى ما تسمى وثيقة باول التي أصدرتها الغرف التجارية والشركات الكبرى في الولايات المتحدة 1971، عن ضرورة التحكّم في مراكز القوة والتشريع، ووسائل الإعلام، وأيضا النقابات.
الشركات الكبرى وجماعات الضغط الموالية لها هي من يحكم العالم، يشترون القوة السياسية والسلطة بتمويل الحملات الانتخابية للمرشحين، والتحكّم بهم بعد فوزهم، تمويل المراكز البحثية وتحويل مسار تقاريرها وإصداراتها، بالإضافة إلى شركات العلاقات العامة الكبرى التي تستطيع تلميع كل ما هو فاسد، وتجميله وتسويقه، بل وأيضا مراكز استطلاعات الرأي والإحصاءات، وهناك أيضا سياسة الباب الدوّار، بأن يصبح المسؤولون الحكوميون السابقون، أو أعضاء الكونغرس والمجالس التشريعية أعضاء في جماعات ضغط لما لهم من خبرةٍ سابقةٍ في تحقيق مصالح معينة.
تنفق جماعات الضغط ميزانيات ضخمة على مصالحها ومصالح الأقلية من رجال الأعمال والشركات الكبرى، أكثر بـ30 ضعفا مما تنفقه النقابات والجمعيات التي تتحدّث عن المصلحة العامة ومصلحة الأغلبية، فنسبة نجاح جماعات الضغط والشركات الكبرى في تمرير القوانين هي الأعلى، مهما كانت المعارضة الشعبية. أما القرارات التي يتحفّظون عليها، فلديهم أيضا قوة عظمى لمنعها، مهما كان التأييد الشعبي لها، في حين أن نسب إصدار التشريعات المفيدة للصالح العام تعتبر ضئيلة بشكل عام، لأنه، في آخر المطاف، تستطيع الشركات الكبرى شراء ذمم أغلبية صانعي التشريعات، وشركات الأدوية الكبرى التي تستطيع عرقلة تشريعات التأمين الصحي خير مثال على ذلك.
في نهاية الطرح، يرى الرجل دونالد ترامب وبيرني ساندرز وجهين لعملة واحدة، هي
 الشعبوية، وإن كانا يروّجان خطابين وسياسات متضاربة، فعندما يشعر الناس بالغضب والخوف من الوضع الحالي يهرولون إلى أصحاب الخطاب الشعبوي، إلى الرجل القوي كما في حالة ترامب، حتى لو كان ذلك ضد الديمقراطية، أو إلى الرجل الذي يدغدغ المشاعر، ويأسر القلوب، ويعيد الأحلام الوردية بالإصلاح الشامل وتغيير النظام بالكامل، كما في حالة بيرني ساندرز، فالناس في حالة الغضب والإحباط تكفر بالمؤسسات القائمة، وتنجذب إلى من هو من خارج المنظومة القائمة ومن يعِد بالإصلاح الشامل.
وهو يؤمن كذلك بأن الناس قادرون على تغيير قواعد اللعبة. تملك جماعات الضغط الأموال الطائلة. ولكن لو اتحد الناس، ونسقوا الجهود، يستطيعون تغيير قواعد اللعبة. كانت العبودية من المسلّمات منذ أكثر من قرن، حتى بعد إلغائها، ظل الاضطهاد العنصري والتمييز قائما بحكم القانون، لم يتغير إلا بالنضال طويل المدى، والتضحيات وطول النفس.
السؤال الذي دار في ذهني عند مشاهدة تلك التقارير عن الكتاب، إذا كان هذا هو الحال في الدول الرأسمالية، وكيف أن ضبْط السوق وتدخُّل الحكومة واتخاذ سياسات العدالة الاجتماعية قد أصبح ضرورةً من أجل منع الانفلات والفوضى، وانهيار النظام الرأسمالي برمته، فما هو الحال والحل في بلادنا التي تتجه إلى نماذج أكثر توحُّشا في درجة الرأسمالية، فمن المفترض أن تكون الحكومات هي من تحقق العدالة، وتضمن عدم حدوث المحسوبية، وتعمل لصالح الأغلبية. ولكن كيف يكون الحال إذا كانت الحكومات تعمل لصالح المحسوبية والأقلية الثرية، أو لصالح طبقة عسكرية صاحبة امتيازات، وليس الأغلبية المطحونة؟
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017