14 نوفمبر 2024
إلى خليجيين: ارتقوا في خصومتكم
لم يمر علي شهر رمضان ثقيل، منذ بدأت الصوم وأنا دون العاشرة من عمري، مثل رمضان الجاري. ومعاذ الله أن يكون للصيام دخل بذلك الثقل الذي أستشعره، وأزعم أن خليجيين وأشقاء عرباً كثيرين استشعروه مثلي، ولكنه التوقيت وحسب جعلنا نعيش أزمة الخليج، وتداعياتها المقيتة في الشهر الكريم المفعم بروحانياته، والذي كان دائما محطة زمنيةً للصلح بين المتخاصمين وللسلام في ربوع الأرواح المتصادمة.
ولعل هذا مما ساهم في شعورنا بالثقل تحت وطأة الصدمة، ونحن نتابع الأحداث التي فاجأتنا في مستوى ما وصلت إليه، على الرغم من مقدّماتٍ كانت تشي باختلافات حادةٍ، كان أقصى ما نتوقعه من نتائجها أن تكون من صنف ما حدث في السابق، وقد يحدث راهنا ومستقبلا بين الأشقاء، لكن الصدمة الحقيقية أن الخلاف وصل إلى ما لم نتوقع حدوثه أبدا؛ فقد تحولت السكينة إلى سكّينةٍ يطعن بها الشقيق شقيقه، ويأكل لحمه ميتا وحيّا، فيكرهه بعضهم ويستسيغه بعضهم، كما تحولت الرحمة إلى لعنةٍ بين الأشقاء في الخليج الواحد.
كل هذا والشياطين مصفدة بلا عمل، فقط تنظر إلى ما يحدث بيننا بذهول، وتتعلم من شياطين البشر ما يمكن أن تستعين به على عملها في الفرقة والخلاف بين الناس.
ما ضاعف من وقع صدمة أزمة الخليج، وانحدار المستوى الذي وصل إليه بعض من انغمس في وحلها من السياسيين والإعلاميين في تناولهم لها، أنها تحدث في المناخ الخليجي الذي عشنا فيه معظم سنوات أعمارنا، ونحن نستشعر الحميمية الدافئة في العلاقات التي تربط بلدانه، على الرغم من الاختلافات الطبيعية والخصوصية التي تميز كل بلد منها عن الآخر. تكرّس ذلك المناخ الخاص في السياسة والحياة الاجتماعية، وفي الثقافة والفن والإعلام، مؤتمرات وقمم ناجحة، وعلاقات إنسانية متشابكة، وتعاونات تعمدت بالدم في أكثر من مناسبة.. ثم حدث ما حدث بين ليلة وضحاها!
هل كانت كل الأغاني والأناشيد والرقصات والصور ورفرفة الأعلام والاستقبالات والبرامج التلفزيونية المنوعة والأوبريتات التي كان يتشاركها جميع من في بلاد الخليج العربية في أثناء انعقاد القمم الخليجية دوريا مجرد وهم كبير، شاركنا كلنا فيه؟
كنت طالبةً في المرحلة الثانوية، عندما أعلن عن تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربي ليكون مظلة رسمية تعبر عما هو واقع فعلا من دون مجلس. يومها طلبت منا المعلمة كتابة موضوعٍ في حصة التعبير الإنشائي عن توقعاتنا للمجلس بعد تخرجنا، فامتلأت دفاترنا بالأحلام الملونة.
تخرجنا من المدرسة، ثم من الجامعات، وعملنا وكبرنا، وها نحن نقترب من سن التقاعد، حيث تواضعت أحلامنا القديمة الكبرى بالوحدة والاكتفاء الذاتي، والاستقلال الحقيقي والتقدم كثيرا، ثم تلاشت تقريبا، وها نحن الآن نستبدل بها أحلاما أخرى تحت وطأة الأمر الواقع.
أصبحت أحلامنا الجديدة هي الصلح، وفض الخلافات، وتفنيد الاتهامات المتبادلة بين دول المجلس الذي بدأ يضيق صدره بأهله، كما يبدو.
والغريب المشين حقاً ليس الخلافات العابرة بين الدول على قسوتها، فهذا مما تعودنا عليه ويمكن فهمه، على الرغم من المستوى الجديد والمفاجئ الذي وصل إليه، بل ما نتج عنها من خلافاتٍ بين كثيرين من مواطني هذه الدول للأسف، وحتى من دون أن يفهموا ما حدث وما يحدث فعلا.
ولهؤلاء تحديدا أقول: كونوا محاضر خير وشهود سلام. لا تؤججوا، وتجاهلوا الإساءات قدر استطاعتكم. أزمة الخليج ستمضي حتماً، وستبقون أنتم وأشقاؤكم وأصدقاؤكم وجيرانكم. فلا توفروا وقوداً لنارٍ تحرقكم إن استعرت، مهما شعرتم أنكم في مأمنٍ منها. قولوا خيراً وتحاشوا الشر. لا تتناقلوا الأخبار المغرضة والنكات المهينة لبعضكم بعضاً. تذكّروا أنكم إخوة قبل خلافات السياسيين وبعدها.
وإنْ كان لا بد من الخلاف والخصومة... فارتقوا.