إلى الشباب المصري: الثورة ليست جولة
في مثل هذا اليوم قبل عام، هبّت قوى الدفاع عن الشرعية في مصر تقول للانقلاب، قبل وقوعه: لا، لن نغادر مواقعنا، وسنظل مدافعين عن الحق، مهما استحكمت خطوط المؤامرة على الشعب، وإرادته، ومستقبله. واليوم، تنتفض قوى الدفاع عن الحقوق والحريات، لتقول للانقلاب نفسه، بعد وقوعه وتغوله وتوحشه: لا، لن نخون مبادئنا، وسنظل مدافعين عن حرية الوطن، مهما اغترّ الطغاة في الداخل، وآزرهم الأطغى من الخارج.
وضوح خارطة شباب الثورة أصبح ضرورة لاستمرار "ثورة الشباب"؛ فثمة قطاعاتٌ لا تزال تمثل بوارق الأمل الدائم غير المنقطع، الأمل الذي إنْ يبرقْ يشرقْ، تلك القطاعات التي لازالت متمسكة بثورتها. إنها ثورة الشباب تخاطب شباب الثورة بجمعيتهم، وبغير تمييز بين المدافعين عن الشرعية والإرادة الشعبية، والمدافعين عن الحرية والحقوق الإنسانية. وهكذا، يجب أن ترى، ويجب أن تتجدد وتتمدد ولا تتبدد. إنها الفرصة التي إن واتت، فإنها سريعة الفوت بطيئة العود، كما يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما.
إنهما طاقتان، بهما تتفجر طاقات الثورة التي لا حد لها، طاقة الحشد الواسع القوي، وطاقة الرمز المبدع الذكي، ولا قيمة لإحداهما إلا بالأخرى. الحشد والرمز عنصرا معادلةٍ مآلها وموئلها عملية الاصطفاف التي لا بد منها، ولا مفر منها، ولا حرج منها، ولا ضير منها، ولا مانع منها، إلا وساوس وهواجس، آن لها أن تذهب مع الريح، وتريح وتستريح، بعد عامٍ من التردد والتراجع، ما كان ينبغي له أن يستقر، وما عاد له أن يستمر.
لقد جاء مشهد 21 يونيو/حزيران 2013، في المظاهرة أمام قصر الاتحادية من أجل المعتقلين، كل المعتقلين، ليؤكد أن النظام الطاغية الانقلابي لا يميز مناصري شرعية، ولا مناصري حرية، فكلا المعنيين لديه حرام، والمطالبة بهما والدفاع عنهما إجرام، لا يستحق إلا السحق، تحت أقدام ثلاثيته (البلطجية والشرطجية والعسكرجية)، مؤازرين بالمغيبين من المواطنين والأهالي الشرفاء عشيرة الانقلاب (الاستقراريين: طبقة جديدة ترى أن استقرارها المزعوم والموهوم، ولو على حساب الوطن وحريته وكرامته ومستقبله، يسوغ لها الضرب والقتل والسحل واستباحة الآخرين).
إن استرداد الثقة في النفس مقدمة للنديّة والتكافؤ مع الآخر، وإذا كان الآخر منافساً، لا عدواً، فإن الأمر يسير، وربما احتمل التقديم والتأخير، أما أن يكون هذا الآخر خصماً طاغياً متوحشاً لا يترك لك فرصة لالتقاط الأنفاس، فإن استرداد الثقة لا يكون إلا باصطفاف المتنافسين لمقاومة الشر الماحق، وتأجيل ملفات الخلاف غير الماحق؛ ذلك عين العقل وعين التدبير، وعين المسؤولية، لمن عرف قدرها.
نظرية وصل السقوف والقواعد: إن تراجع الثقة دخل على بعض الكيانات، وتخلل صفوفها، خصوصاً فيما بين سقوفها وقواعدها، ومن المهم تدارك ذلك بهجمة قرارات استراتيجيةٍ، تتعلق بالاصطفاف الثوري الخالي من الوساوس والهواجس والكلام الضعيف. القواعد ما عادت تصدق كثيراً هذه الهلاوس، وما عادت تقتنع بأن العدو هو ذلك الذي (أخطأ)، فيما الكل مخطئون، وفيما الكل اليوم مضطهدون، مطاردون، مقتولون أو معتقلون، أو معرضون للشر المستطير نفسه، صفونا في السجون والزنازين، لنندفع بكل قوة للاصطفاف في الميادين.
من المهم أن نراجع قضية الاختراق؛ ليس الاختراق الأمني، ولكن، الاختراق النفسي والعقلي الذي يشوه الصورة الواقعية، ويغبش المشهد على الشاهدين، ويقلب الحقائق، ويكبر الصغيرة، ويصغر الكبيرة، ويرسّخ عمى الألوان في النفوس والأذهان. ثمة مكرٌ يحيق بصفوف قطاعاتٍ من الشباب، ويوسع فجوة بين القواعد والصفوف، يجب التحسب لها. هذا المكر غايته أن يؤتى البنيان من قواعده لتخر سقوفه.
إن حديث وملهاة ولهاية "المكتب السياسي" التي تلوكها قيادات شبابية مصرية آن لها أن تنزوي قليلاً، لنستمع إلى أصوات القواعد التي هي أقرب إلى أرض الواقع. أرى، من بعيد، بوادر تتعلق بعيوب التنظيم والانتظام وأمراضهما في حركات شبابية كثيرة الآن، وأخشى أن تكون لها مآلات سلبية. ولعل الحل والمخرج الآني، في هذا الإطار، أن تتبنى (السقوف: القيادات) رؤيةً استراتيجيةً، تقوم على التواصل بين السقوف والقواعد، رؤية تقوم على الاصطفاف مع كل من يريد أن يقاوم هذا الانقلاب؛ على قاعدة من مستقبل الشرعية ومستقبل الحرية، وبالجملة: مستقبل مصر السياسي. غير هذا، فإن الأمور ستتخطى هؤلاء جميعاً.
وعلى جانب آخر، يصمد هذا الشباب الذي يقوم بعمل متواصل متراكمٍ، يحفظ للزخم الثوري حركته واستمراريته، لولا هؤلاء، ما كنا نتحدث، الآن، عن "ثورة جديدة"، لولا هؤلاء الذين استمروا في زخمهم الثوري، يؤكدون ضرورة أن يسترد الشعب المصري ثورته وصوته الذي مارسه في مناسبات كثيرة، ويحمي ما يمكن تسميته المسار الديموقراطي، ويؤكد على الشرعية، ويتلقى ويتحمل كل تلك التكلفة العالية التي لا يمكن لأحد إنكارها. فنحن أمام هؤلاء الذين انتدبوا، للتأكيد لكل الناس في كل مقامٍ، وبأوضح صوت، أن الثورة مستمرة.
لن يعود هؤلاء أدراجهم، لن يعودوا إلى بيوتهم، لن يقنعوا بحياة العبودية التي يحاول الانقلاب وتوابعه أن يفرضوا عليهم كل قوانين القطيع والعبيد وقوانين الفرعنة والشرعنة الزائفة. إنهم، بذلك، يمثلون الثبات على حقٍ، كان من السهل على كثيرين إنكاره، أو استنكاره، أو التغاضي عنه، أو السكوت عنه وعليه، لكنهم آثروا أن يصدعوا قولاً وعملاً، خطاباً وممارسة، ليؤكدوا أن الحق أحق أن يتبع، وهم يفهمون ذلك كله، بوعي فطري شديد. جاء التشويه من كل مكان، ومن مصادر كانت في ذهن بعض الناس، وكان مستبعداً أن ينزلقوا إلى هذا المنحدر من التشكيك والتخوين وصناعة الكراهية، واستسهال أن يتهم الضعيف والضحية، وأن يفلت الجاني بجنايته، لما يتمتع به من قوة وعنجهية.
هؤلاء قدموا حلاً لمشكلة خطيرة: أن يمكن أن نصمت في إطار من (الرخصة)، حينما يتعامل الباطش بكل أنواع العسف والظلم وممارسات القمع والاعتقال، وما يرتكبه من قتل وحرق وخنق، فيجوز له الصمت رخصة؟ إلا أن هؤلاء جميعاً قرروا أن يطلقوا "لا" كبيرة في وجه الظالم والمعتدي والمستبد وصناعة فرعون جديد، قالوا إن دماءهم رخيصة حتى يتحرر الوطن، فما لكم، إذن، تتحدثون عن هذا وذاك في ثورة 25 يناير من رموز، وتعتبرون ذلك صكاً لهم. ونتعامل مع ذلك كله، في إطار من المواءمات، ولكن، من أجل اصطفاف هذه الرموز الوطنية، في إطار النضج نحو حالة ثورية، فذلك يوجب ألا ننسى هؤلاء، أو أن نغفل حقهم، ونقول لهم: لو انتفى هذا الفعل، لنقضت آخر عروة في هذه الثورة. إذا كانت الناس تصطف، فأنتم الفرسان الذين لم يتركوا أبدًا الصف!!، الثورة ليست عورة، حتى يتهم هؤلاء بها، بل إنهم حائط الصد لحمايتها، وطاقتها المحركة لاستمرارها.
وإلى شبابٍ، واجه النظام القمعي (الانقلابي)، باحتجاجاته في يوم الاتحادية 21 يونيو 2014، فانكشف هذا النظام برمته وأهدافه وجماعات مصالحه، انكشفت الحالة الانقلابية وأهدافها، انكشفت الثورة المضادة وتحالفاتها، إنهم واجهوا الناس جميعاً بدعوى محاربة الإرهاب والعنف المحتمل، وأخرجوا من ترسانتهم قانون التظاهر في أسوأ طبعاته، ليضربوا به كل محتج، أو من يقول لدولة القمع والاستبداد "لا"، نقول لهؤلاء الشجعان الذين تجمعوا عند قصر الاتحادية: الثورة لم تكن أبداً جولة، بل هي ملحمة متصلة، إلى أن تحقق الثورة أهدافها، وتحمي كيانها ومكتسباتها.
صار الشباب المصري في حاجة إلى بعضهم، صار الشباب في كل كيان يمثل كتلةً جيليةً، تبحث عن المستقبل، ويجب أن تهجر كل خلافات الماضي، وصياغة المستقبل مسؤولية هذه الكتلة الجيلية. والمحك هو قدرة هذه الكتلة التاريخية الحرجة على صياغة هذا المستقبل، على أعينها، بما يحقق الأهداف الكبرى للوطن، ويحقق أهداف الثورة الحقيقية، ويبلغ مطالب الشعب في معاشه وبناء دولته لتقوم بكل وظائفها الجوهرية.
ليس علينا أن نحارب "معارك موهومة، أو مزعومة، أو مكتومة، أو مسمومة". علينا أن نمارس كل ما يتعلق بتجديد المعركة الحقيقية، وتحديد الخصم الحقيقي، والتعلم من الأخطاء الحقيقية، لا المهونة ولا المهولة، وترك باب النقد الذاتي لكل أحد، في أي وقتٍ شاء؛ فريضة عليه لنفسه وللوطن وللثورة التي يجب ألا تفلت من بين أيدينا. النقد الذاتي لا يعني اعتذار كل قوة سياسية للقوى الأخرى، لكنها تعني اعتذاراً للوطن وللثورة وأهدافها، وقبلها اعترافاً أمام الذات بأن الأخطاء يجب أن تنكشف، وتُداوى، ولا تتكرر.
إنها قوانين الاصطفاف التي تملك فنون الخروج من الاختلاف إلى الائتلاف. الثورة ليست عورة كما أنها ليست جولة، إن مستقبل الشرعية والحرية مرهون بثورة الشباب وشباب الثورة، لمواجهة فساد المنظومة الانقلابية في مصر واستبدادها.