جاء إعلان الرئيس السوداني، عمر البشير، يوم الخميس، عن وجود "جهات"، لم يحدد هويتها، وقفت خلف تقسيم السودان إلى دولتين قبل ثلاث سنوات، وتعرض اليوم إعادة الوحدة بين الشمال والجنوب، خارجاً عن أي سياق. وبلغة الحريص على القانون، أكد البشير أن أي خطوة من هذا القبيل "يجب أن تخضع لاستفتاء دستوري شامل".
لم يكن هذا التصريح الأول للبشير الذي يبدي فيه رغبته بإعادة الوحدة بين شطري البلاد، فقد سبق له أن قال، في العام الماضي على سبيل المثال لا الحصر، إنه "سيأتي يوم يتوحّد فيه شطرا السودان في دولة واحدة، أو ينشأ بينهما اتحاد".
لكن الأكيد أيضاً أن البشير لا يفترض أنه مقتنع بوجود رغبة جدية في جنوب السودان لإعادة الوحدة، أقله في الوقت الراهن.
منذ الوفاة الغامضة لزعيم "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، جون قرنق، في يوليو/ تموز 2005، جراء حادث تحطم طائرته، بعد وقت قصير من التوقيع على اتفاق السلام بين الحكومة السودانية والحركة في نيفاشا، كان يمكن ملاحظة أن مشروع الحفاظ على وحدة السودان قد ولّى إلى غير رجعة.
لم يكن أحد داخل نظام "الإنقاذ"، في الأساس، ينظر بارتياح إلى وحدوية قرنق، وخصوصاً أن الأخير كان يفضّل الوحدة لحكم الشمال والجنوب معاً، وهو ما كان يشكل بالنسبة لـ"الإنقاذ"، الذي وصل إلى السلطة في عام 1989 بفعل انقلاب البشير على جميع مَن يخالفه، أمراً غير مسموح حدوثه على الاطلاق.
وقد أثّرت وفاة قرنق سلباً على فرص الوحدة، وفاقمت من مشاعر الجنوبيين المؤيدة للانفصال على وقع التطورات السياسية في السودان في ذلك الحين، فضلاً عن حال التعبئة ضد الوحدة داخل الجنوب، طوال الفترة الانتقالية التي امتدت لخمس سنوات، ونصّت على منح الجنوبيين في ختام تلك المرحلة الانتقالية (أي في 2011)، الحق بتقرير مصيرهم بين الوحدة أو الانفصال.
وتجلّى التجسيد الأقوى لرفض الوحدة، عندما اصطفّ الجنوبيون في طوابير طويلة على مدى أيام الاستفتاء، التي امتدت بين التاسع من يناير/ كانون الثاني 2011 و15 منه. وبلغت يومها نسبة التصويت لصالح الانفصال 98 في المئة.
يدرك البشير أن شعور رفض الوحدة لا يزال كاسحاً بين الجنوبيين، على الرغم من كل ما تعانيه الدولة الوليدة، سواء على الصعيد الأمني بعد الاشتباكات بين القوات الموالية للرئيس سيلفاكير ميارديت، وقوات نائبه السابق، رياك مشار، أو على الصعيد الاقتصادي المترافق مع عجز الدولة عن تأمين الحد الأدنى من المتطلبات الاجتماعية والخدمية لمواطنيها.
ولم يُسمع أي حديث، منذ ثلاثة أعوام، عن رأي عام تشكل داخل الجنوب، يعلن "الندم" على خيار الانفصال، ولا سيما أنه خلال فترة الانتماء إلى السودان الموحّد، لم تكن أوضاع الجنوب أفضل ممّا هي اليوم، لا أمنياً ولا سياسياً ولا حتى اقتصادياً.
بناءً على استبعاد "الندم الشعبي" الجنوبي على قرار الانفصال، فهل كان البشير يقصد وجود رغبة بإعادة الوحدة لدى أي من حكام الجنوب؟
يبدو استعراض الأطراف السياسية الفاعلة في الجنوب ضرورياً لمحاولة الحصول على إجابة. يرفض سيلفاكير ميارديت، اليوم، تقاسم السلطة مع أبناء "الحركة الشعبية" أنفسهم، معتمداً سياسة الاستئثار منذ توليه منصبه الحزبي خلفاً لقرنق، ثم بعد تحوله إلى رئيس للجنوب عقب الانفصال. فما الذي قد يدفعه للتفكير بالعودة إلى الوحدة مع الشمال، مع ما يعنيه ذلك من تقاسم للسلطة؟
ماذا عن نائب الرئيس المقال، مشار، فهل يمكن أن يكون هو المعني؟ الأخير انتقل من صفوف الحكومة إلى الأدغال. تاريخه حافل بالتمرد على "الحركة الشعبية" منذ نشأتها، بما في ذلك أيام قرنق. وسبق أن نجح نظام "الإنقاذ" في استمالة مشار مع القيادي السابق في الحركة، لام أكول. لذلك، يعرف البشير أكثر من غيره أن مشار قد يدخل في تحالف مع نظام "الإنقاذ" لضرب ميارديت، ولا سيما في ظل تقاطع مصالح بين مشار وبين الخرطوم، أخذاً في الاعتبار سيطرة قواته على الولايات النفطية الأساسية. لكن مشار، على غرار أي سياسي أو عسكري جنوبي اليوم، ليس على الإطلاق في وارد القضاء على مستقبله عبر تبنّي سياسة إعادة الوحدة غير الشعبية بتاتاً في الدولة الوليدة، مهما بلغت الخلافات السياسية داخل الجنوب.
لا يترك استبعاد أن تكون الأطراف الجنوبية هي المعنية بكلام البشير، سوى التفكير بأطراف خارجية كانت داعمة بشكل أساسي لخيار انفصال جنوب السودان، وتحديداً الولايات المتحدة. لم تخفِ واشنطن قلقها ممّا يجري داخل الدولة الوليدة من معارك، ولا سيما بسبب انعكاساتها على دول الجوار الأفريقي. وقد لوّحت واشنطن أيضاً بأن تلجأ إلى "الخيار الأصعب" بفرض عقوبات على المتورطين في الصراع بجنوب السودان، لكن هل يحتمل أن تكون قد أسرّت إلى البشير بندمها؟
هنا أيضاً يمكن استبعاد هذا الخيار، ليس بسبب العلاقة الملتبسة بين واشنطن والخرطوم فحسب، بل لأن المتتبّع لسياسة الولايات المتحدة تجاه السودانَين طوال السنوات الماضية، يدرك جيداً مدى أهمية الدور الذي تؤديه مجموعة من "اللوبيات" الداعمة لجوبا، في التأثير على مسار السياسة الأميركية تجاه البلدين. وحتى اللحظة، لا بوادر تغيير في الموقف الأميركي من جنوب السودان.
ينسحب التحليل نفسه على الدول الأفريقية المجاورة للسودانَين، على الرغم من تأثّر هذه الدول بتداعيات الأزمة الانسانية في جنوب السودان، على خلفية اضطرار عشرات الآلالف من الجنوبيين للنزوح في رحلة تشرّد جديدة.
اذاً، لا يبدو بالإمكان وضع تصريح البشير إلا في خانة توجيه رسالة استفزاز لساسة الجنوب، وتحديداً لميارديت، بعد اتهامات وجّهها الجيش الجنوبي لقوات الحكومة السودانية بتدريب قوات مشار، فضلاً عن امتعاض البشير، على ما يبدو، من الحلف المستمر بين جنوب السودان وأوغندا، الذي يرى فيه السودان ضرراً على مصالحه.
ومهما تكن الأسباب التي دفعت البشير للإدلاء بحديثه، يوم الخميس، فإن ما يتغافل عنه هو أن أي رغبة جدية لإعادة الوحدة مع الجنوب، لا تتطلّب فقط "ندماً جنوبياً"، بل أن يثبت نظام "الإنقاذ"، أولاً، أنه مستعدّ لشراكة حقيقية مع جميع الأطراف السياسية السودانية، وليس فقط إعادة ترتيب بيته الداخلي، وتحديداً الإسلامي، مستفيداً من تبدّلٍ في موقف العرّاب الأول لنظام "الإنقاذ"، حسن الترابي، الذي اختار العودة للتحالف مع البشير.
كذلك لا يمكن الحديث عن احتمال إعادة الوحدة قبل حل النزاع المستمر منذ أكثر من عشر سنوات في دارفور، ومعالجة المشاكل الحدودية مع الجارة الوليدة، وتحديداً في النيل الأزرق وولاية جنوب كردفان، اللتين يطلق عليهما: "الجنوب الجديد"، فضلاً عن ولاية أبيي.
أما إعلان رئيس هيئة تحالف أحزاب المعارضة، فاروق أبو عيسى، يوم الجمعة، أن جوبا أبلغتهم استعدادها للعودة إلى السودان الموحَّد، في حال عادت الديموقراطية بذهاب النظام الحالي، فهو يؤكد أن المطلوب حدوث تغيير جذري في طبيعة الحكم في السودان، والعودة إلى روحية ما كان يطرحه قرنق من نظام سياسي يحكم الشمال والجنوب معاً، وهو ما يرى فيه كثيرون دليلاً على استحالة إعادة الوحدة، على الأقل في المدى المنظور.