يمكن القول أن المرحلة الثالثة من التغيرات التي لحقت جماعة الإخوان المسلمين المصرية، تتلخص في إعادة تعريف السلمية واللجوء إلى القوة كخيار للمواجهة، وجرت تفاعلاتها خلال الفترة من يناير/كانون الثاني 2014 حتى مارس/آذار 2015).
"ما دون القتل فهو سلمية" شعار رفعه شباب الجماعة وكثير من المتحالفين معها وأنصارها، منذ الأول من يناير/كانون الثاني 2014 حينما قرروا "تقليم أظافر الداخلية" بحسب قيادي إخواني، من محافظة الإسكندرية، فضل عدم الكشف عن اسمه لكونه من المطلوبين للأجهزة الأمنية المصرية، يرى القيادي الإخواني "أن ما يجري هو استخدام أدوات لصد العنف المفرط من الداخلية والجيش، في محاولة لحماية المتظاهرين باستخدام الألعاب النارية والحجارة واستخدام المولوتوف ضد سيارات الشرطة وكذلك المدرعات التي تعتقل الفتيات دون المساس بالأفراد أو التورط في الدخول إلي مواجهة مسلحة"، مؤكدا أن "الإخوان لم يتخلوا عن السلمية، لأنها خيار استراتيجي، لجأت إليه الجماعة بشكل علني ومقبول، نتيجة ضغط الشباب، الذي بات يسخر من مقولة مرشد الجماعة في اعتصام رابعة حينما قال "سلميتنا أقوى من الرصاص"، وهي السخرية التي امتدت حتى الآن، ليرى قيادات الجماعة، "وجود مُتنفس باستخدام سقف قوة مقبول يشابه ما أقدمت عليه الجماهير في ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وهو ما سيكون من شأنه تفريغ توجيه طاقة الشباب، لسلوك مراقب، ويضمن عدم شرود الكثير منهم للتصرف بمفرده".
من هنا يمكن أن نلمس التغير في المرحلة التالية، وهو إعادة تعريف معنى السلمية واللجوء إلى القوة المحدودة كخيار للمواجهة، نتيجة جملة من العوامل، من بينها حجم الاعتقالات والمواجهات في الجامعات، وشعور الشباب بعدم جدوى التظاهر فقط لحلحة الوضع، واستخدام القوة والاعتقال ضد الفتيات والنساء، مثلما حدث مع فتيات حركة "سبعة الصبح" في نوفمبر/تشرين الثاني 2013 بالإسكندرية، وخروج شكاوى عديدة من انتهاكات متعددة ضد الفتيات في السجون والأقسام.
هذا التصعيد، كانت توازيه عمليات عنف واسعة تصل إلى حد التفجير والقتل ضد أفراد الشرطة والجيش سواء في سيناء أو في وسط مصر، وذلك من قبل تنظيمات مسلحة كأنصار بيت المقدس وأجناد مصر، وحركة أطلقت على نفسها كتائب أنصار الشريعة، الأمر الذي أقلق قيادات جماعة الإخوان بأن يتم الربط بينها وبين تصعيد الشباب، وهو ما دفع أمين الجماعة حينها محمود حسين لإصدار بيان في 8 إبريل/نيسان، حمل عنوان "الإخوان المسلمون نصاعة الموقف وثبات المبادئ"، يؤكد فيه على نبذ الجماعة للعنف، ويستعرض ما اعتبره "تأصيلا تاريخيا لنبذ الجماعة للعنف والتكفير".
لكن رغم هذا كله، لم يمنع ذلك كثيرا من شباب الجماعة وأنصارها، من إبداء إعجابهم بما تلحقه هذه الجماعات من أضرار في صفوف القوى الأمنية، في صورة تشبه "المُكايدة السياسية" و"التشفي"، وهو ما أحدث انقساما نحو رؤية التعامل مع شكل التصعيد المطلوب، وهو أمر بدا أن الجماعات المسلحة تلقفته، فكان أن حاولت استقطاب بعض شباب الإخوان ممن رأى أن إلتزام الجماعة بحالة "اللاصدام واللاانسحاب" من المواجهة مع النظام، نوعا من "التهلكة" الذي لا يؤثر في السلطة، وتخسر بسببه الجماعة، وبات بعض الشباب مقتنعا بأن التصعيد باستخدام السلاح لقتل من تلطخت أيديهم بالدماء أمر واجب، إلا أن هذا الاستهداف لم يجد هذا الصدى بسبب إقدام الجماعة حينها على "عقد ورش عمل لاحتواء الأعضاء الشبان الذين سجنوا أو عذبوا وإقناعهم باللجوء إلى لعبة النفَس الطويل اعتقادا بأن النظام سيفشل في معالجة مشاكل اجتماعية واقتصادية، مما سيؤدي إلى ثورة المصريين عليه"، كما قال القيادي الإخواني السكندري لــ"العربي الجديد".
استمر الأمر على هذا النحو إلى أن جاءت الذكرى الأولى لفض رابعة، التي مثلت تصعيدا نوعيا في المظاهرات والمواجهات، إذ بدأت استراتيجية جديدة تبنتها مجموعة جديدة تسمى "المجهولين"، وهي مجموعة نسبها المراقبون حينها إلى أعضاء جماعة الإخوان أو أنصارهم، مستندين في ذلك إلى أنّ أغلب أنشطتهم تنشر أخبارها صفحات حزب الحرية والعدالة والإخوان، وتبنت هذه المجموعة استراتيجية تصعيدية استهدفت إشعال النيران في المباني الحكومية وحافلات النقل العام، وتعطيل حركة المترو واستهداف بعض أبراج شركات المحمول والكهرباء، وترديد هتافات كـ"السلمية بح خلاص، دم بدم رصاص برصاص"، هذا إضافة إلى إعلان حركة المقاومة الشعبية عن نفسها قبل ذكرى الفض بيوم واحد.
لكن جماعة الإخوان نفت انتماء هؤلاء الشباب لها، معتبرة أن ما جرى جاء "كرد فعل طبيعي لدولة لا تحترم حقوق الإنسان أو ترحم حتى الشهداء وذويهم ولازالت تنكر أكبر مذبحة حدثت في يوم واحد في التاريخ"، ويرجح القيادي السكندري أن تكون قطاعات من هؤلاء الشباب ممن "لا يجدون بديلا للقصاص لقتلاهم، غير التنفيس عن غضبهم".
استمر هذا التصعيد على مستوى الخطاب، خلال الأشهر التالية، وتم اللجوء إلى الخطاب الديني بشكل مركزي، كأداة للشحن المعنوي بجانب خطاب القصاص للشهداء، وهو ما توج ببعض أحاديث مثيرة للجدل في يناير/كانون الثاني 2015 أولهما للشيخ سلامة عبد القوي المتحدث باسم الأوقاف في فترة مرسي والثاني للشيخ عصام تليمة الداعية الأزهري الإخواني المعروف، تحدثا فيها عن القصاص و"قتل السيسي والبلطجية والقادة المجرمين"، مستندا إلى فتوى حول القصاص والإفساد في الأرض قال إنها لمفتي الجمهورية الشيخ علي جمعة.
تزامن هذا مع ظهور حركات ليست معروفة الانتماء، كحركة "العقاب الثوري" التي أُسست في الذكرى الرابعة للثورة، ومجموعات "المقاومة الشعبية" التي هي استنساخ من الفكرة التي أطلقت في ذكرى رابعة، و"المجهولين" الذين كانت لهم يد أيضا في حالة العنف غير المسبوق التي صاحبت الذكرى الرابعة للثورة، ووصل إلى حد استهداف بعض عناصر الأمن أو المخبرين أو المتعاونين معهم، خاصة في الثلاثة أشهر الأولى من العام الحالي، وهو ما نال إعجاب بعض شباب من الإخوان والإسلاميين.
ساهمت هذه الحركات في استهداف المصالح الاقتصادية كحرق محل تابع لمطاعم "كنتاكي" وبعض فروع شركة المحمول ومصالح شركات كبرى، وأبراج كهرباء، وهو ما فسره القيادي بالإخوان بأنه "صورة كلاسيكية من الاحتجاجات في مواجهات ضد حكومات عسكرية، وجُرّبت في دول مختلفة تستهدف فض المستثمرين من حول النظام وتصدير الأزمات له أمام الشعب، وإظهاره كمرتبك ومنهك، وهو ما جرى مع مرسي قبل ذلك".
كان من اللافت تلك الرسالة التي نشرت على موقع الجماعة في 29 يناير/كانون الثاني الماضي وحملت توقيع "فارس الثورة"، وتضمنت عبارات في ظاهرها كلامٌ تاريخي عن الجماعة، لكنه كان من الواضح أنه اختير بدقة، لاسيما في جانب الحديث عن شعارها، وما يعنيه من رمزية عن "القوة والحرية"، مقتبسة قولا لمؤسس الجماعة، حسن البنا يتحدث فيه عن أهمية العقيدة وقوة الوحدة وقوة الساعد وإلا يكون مصير الجماعة قوة الفناء والهلاك.
هذا التصعيد المفاجئ في شكله ونوعه كشف عن ثلاثة أمور وأدى إلى ثلاثة أمور أخرى:
ما كشف عنه هو:
أولا: أن الحراك في الشارع وقواعد الإخوان باتوا هم من يقودون المشهد السياسي، وأن خيارات التصعيد جاءت من أسفل وليس من أعلى، خاصة مع دخول نسبة أكبر من الشباب في جسد الهيكل الإداري للجماعة، وأن الهرم بات مقلوبا في الإخوان من حيث قيادة المشهد.
ثانيا: ثمة قطاعات غير إخوانية انضمت للحراك في الشارع في ذلك التوقيت خاصة من الشباب الذين تعرضوا للاعتقال وخرجوا، أو ممن قبض عليهم عشوائيا، وأنه رغما عن الاعتقالات والمطاردة، مازال قطاع من الشباب قادرا على المواجهة.
ثالثا: الانقسام حول فكرة استخدام القوة، وإن أدى إلى انسحاب بعض الشباب إلى ساحة العمل الدعوي مرة أخرى، إلا أنه دفع آخرين للجنوح نحو استخدام القوة بشكل أكبر، ويعكس هذا الانقسام حالة من التوتر بين قيادات الجماعة وشبابها.
ما أدى إليه التصعيد:
أولا: أثار حفيظة أعضاء تحالف دعم الشرعية، الموجودين مع الإخوان من أحزاب سياسية، مثل حزب الوسط والوطن، مما أدى إلى خروجهم من التحالف، وبات مصير التحالف إلى تفكك، وأصبح اصطفاف الإخوان فرديا بشكل أكبر، خاصة مع بيان ضعف تأثير المؤسسات التي أنشأتها الجماعة في الخارج، كالمجلس الثوري والبرلمان الثوري، في إحداث أي نوع من الفاعلية على الأرض أو التأثير في مجريات الأحداث.
ثانيا: إعادة تموضع شباب الإخوان والإسلاميين لتتقارب أفكار بعضهم مع أفكار تيارات أخرى كالجبهة السلفية، التي رفعت شعار الانتصار للهوية الإسلامية أثناء ما يُعرف بـ"انتفاضة الشباب المسلم" في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وميل قطاع آخر إلى تبني فكرة تطوير استخدام القوة والمواجهة لتطال المصالح الاقتصادية لمؤسسات يمتلكها رجال أعمال، يصفهم شباب الجماعة بأنهم "ممولو الإنقلاب"، و"مؤيديون لسحق التيار الإسلامي"، هذا فضلاً عن ظهور تقارب في الرؤوى بين قطاع من شباب في الجماعة والتيار الإسلامي من جهة وبين حركات أخرى لها مستوى أعلى من ممارسة العنف مثل "المقاومة الشعبية" و"العقاب الثوري"، وهي من تتبنى مفهوم "القصاص" بشكل واضح من ضباط الشرطة، الذين ترى هذه الحركات أنهم متورطون في الاعتداءات على الفتيات أو التعذيب في الأقسام أو قتل المتظاهرين.
ثالثا: قلق كثير من القطاعات التقليدية المؤيدة للإخوان من الخروج في المظاهرات، خاصة بعد مواجهات ذكرى 25 يناير هذا العام، والتي كانت من أعنف المواجهات، وما تلاها من تصعيد حتى المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ، وكذلك إحكام قبضة الأمن على الجامعات هذا العام، بعد أن كان عام 2013/2014 حافلا بصدمات غير مسبوقة.
في الحلقة المقبلة، نتناول المرحلة الرابعة من تغيرات جماعة الإخوان، نسلط الضوء فيها على ما جرى من بناء اصطفاف داخلي وإعادة للهيكلة التنظيمية.
--------
اقرأ أيضا :
إعادة تموضع الإخوان المسلمين..أربع مراحل للتغيير ترسم المستقبل