14 نوفمبر 2024
إطلالة على حصاد الربيع العربي
مرت سبع سنوات على اندلاع ثورات الربيع العربي التي بدأت في تونس، ثم انتقلت شرارتها إلى بلدان أخرى، في حدث يمكن اعتباره الأكثر أهمية ودلالة خلال العقود الخمسة الأخيرة. كان حدثا مفصليا بالنظر إلى تداعياته العميقة، وما أثاره من أسئلةٍ وإشكالاتٍ تخص مختلف جوانب الاجتماع السياسي العربي. فقد كشف حدود الخطاب الفكري والسياسي العربي الذي كان يستبعد حدوث تغيير في المنطقة، متعللا بتجذّر السلطوية في النسيج الاجتماعي والثقافي، خصوصا بعد أن ظل العرب الاستثناء الوحيد في العالم الذي لم تطاوله رياح التغيير التي واكبت سقوط أنظمة دكتاتورية في مناطق شتى، عقب نهاية الحرب الباردة.
في السياق نفسه، كشف الربيع العربي الأعطاب الثاوية في البنى المجتمعية والثقافية العربية، والتي أسهمت في الحيلولة دون الالتحاق بقائمة تجارب التحول الديمقراطي. وبقدر ما عبرت هذه الأعطاب عن فاعلية التقليد واستمراره في تغذية هذه البنى على الصعد كافة، بقدر ما فتحت آفاقا أمام النخب والشعوب، من أجل وقفة تاريخية مع الذات، بغاية تجاوز الأخطاء والاستفادة منها في المستقبل.
أظهرت الوقائع كيف نجحت السلطوية العربية في تسخير الطبيعة التقليدية للمجتمع وتوظيفها، بغاية تجنب التغيير، وإعادة إنتاج هياكلها ومؤسساتها، بما لا يؤثر على معادلة توزيع السلطة والثروة. فالتحولُ السوسيولوجي الذي عرفته المنطقة، والذي أفرز طبقةً وسطى، يُفترض أنها تتطلع إلى قيم التنوير والتحديث، كشف مخزونا غير هَيِّنٍ من التقليد، تحتفظ به هذه الطبقة في لا وعيها الاجتماعي والثقافي؛ مخزون تعكسه النعراتُ المذهبية والطائفية والعشائرية، وعدم احترام الاختلاف والرأي المخالف، والاستقواءُ بقوى الثورة المضادة في مواجهة الخصوم.
كشفت أحداث الربيع العربي المفارقات الدالة التي تنطوي عليها التركيبة المجتمعية والثقافية العربية، فهناك تغييراتٌ، على قدر كبير من الأهمية، حدثت بفعل تأثير العولمة، والتكنولوجيا الحديثة، ونمو الحس المدني، وتنامي الوعي بضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة في العمل السياسي، غير أن ذلك كله، وإن كان له دور حاسم في انطلاق شرارة الثورات وتوهجها، إلا أن فاعليته في السيرورة التي أعقبت سقوط الأنظمة كانت محدودةً للغاية، إن لم نقل منعدمة. ففي مصر، لم تستحضر القوى الثورية، بمختلف أطيافها، في غمرة حنقها على حكم الإخوان المسلمين إبّان النصف الأول من عام 2013، طبيعة العسكرتارية المصرية المعادية للديمقراطية والحكم المدني، وشكلت عصب مظاهرات 30 يونيو، في وقتٍ كانت أمامها خيارات أخرى للضغط على نظام "الإخوان"، وإرغامه على الاستجابة لمطالبها.
كانت صدمة كبيرة أن يقف قطاع من اليسار العربي، بمعظم تشكيلاته الخائبة، في صف قوى الاستبداد والثورة المضادة، بدعوى مواجهة الإرهاب الأصولي، ويكونَ شريكا في استدعاء
التقليد وتسخيره لإعاقة التحول نحو الديمقراطية، ويُساهم في ترويج أن الثورة لم تجلب غير الخراب والفوضى، وأن إعادة الأمن والاستقرار والاستثمارات الخارجية تقتضي انقيادَ الشعوب للأنظمة القائمة (المنحدرة من قوى الثورة المضادة)، والتسليمَ بأحقيتها في الحكم، وعدمَ الانشغال بقضايا الديمقراطية، ونزاهة الانتخابات، والتداول على السلطة، وتوزيع الثروة، وإقرار آليات المحاسبة، ومكافحة الفساد.
لا يتوقف الحصاد المأساوي الذي انتهت إليه معظم ثورات الربيع العربي عند الإخفاق في بناء تعاقدات كبرى، تكون أساسا للتحول الديمقراطي، بل يتجاوزه نحو أوراش القتل والتدمير والإرهاب التي فتحتها القوى الإقليمية والدولية عقابا منها لشعوب المنطقة على تطلعها نحو الحرية والكرامة والديمقراطية. فبعد كل ما حدث، طوال الأعوام السبعة الماضية، من الصعب أن نظل مشدودين إلى روايةٍ ترفض منطق المؤامرة في تفسير الأحداث وتعاقبها، وترى في الربيع العربي نتيجةً حتميةً لتراكم فائض الاستبداد، والفساد، والريع، والاحتقان الاجتماعي والسياسي.
ما حدث ويحدث منذ عام 2013 يعكس، بشكلٍ لا يخلو من دلالة، صراع الأجندات الإقليمية والدولية، ليس لإنهاء موجة العنف والإرهاب والفوضى، بل من أجل الإيغال في تفكيك البنى المجتمعية والأهلية، وإثارة مزيد من النعرات التقليدية، وضرب المجتمعات في استقرارها وأمنها، بهدف إعادة رسم خريطة المنطقة، واستثمار ذلك كله لتمرير صفقة إقليمية مريبة تُجهز على القضية الفلسطينية، وتفتح الباب أمام تطبيعٍ شاملٍ مع الكيان الصهيوني، وذلك بجهود بلدان عربية معلومة.
ما كان دونالد ترامب ليجرؤ على إعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني، لولا الظرفية التي أفرزتها الانتكاسة المدوية للثورات العربية، ووجود حاضنةٍ سياسيةٍ وإعلامية لخطوته داخل كواليس السياسة العربية. وقد كان تصريحه دالا حين قال إن اعتراض السعودية ومصر لم يكن على مضمون قراره، بقدر ما كان على توقيته. كما لم تكن تسريبات صحيفة نيويورك تايمز أخيرا في هذا الصدد أقل دلالة، حين كشفت عن دورٍ تلعبه المخابرات المصرية لإقناع الرأي العام بقبول قرار ترامب، وترويج فكرة أن لا ضرر في الاستعاضة عن القدس برام الله عاصمة لفلسطين.
على الرغم من هذه الحصيلة، لا يمكن إنكار أن الربيع العربي شكل نهاية مرحلة وبداية أخرى، فقد سقط حاجز الخوف الذي سيّجت به النخبُ العربية الحاكمة نفسها في مواجهة الشارع. وإذا كانت الفوضى العارمةُ التي تجتاح المنطقة حاليا قد دفعت الشعوب العربية إلى تفضيل الأمن والاستقرار والتضحية بتطلعاتها السياسية والاجتماعية، فإن هذا الوضع قد لا يستمر طويلا، في ضوء تنامي الوعي بضرورة التغيير، وتآكل شرعية هذه النخب وخطابها.
في السياق نفسه، كشف الربيع العربي الأعطاب الثاوية في البنى المجتمعية والثقافية العربية، والتي أسهمت في الحيلولة دون الالتحاق بقائمة تجارب التحول الديمقراطي. وبقدر ما عبرت هذه الأعطاب عن فاعلية التقليد واستمراره في تغذية هذه البنى على الصعد كافة، بقدر ما فتحت آفاقا أمام النخب والشعوب، من أجل وقفة تاريخية مع الذات، بغاية تجاوز الأخطاء والاستفادة منها في المستقبل.
أظهرت الوقائع كيف نجحت السلطوية العربية في تسخير الطبيعة التقليدية للمجتمع وتوظيفها، بغاية تجنب التغيير، وإعادة إنتاج هياكلها ومؤسساتها، بما لا يؤثر على معادلة توزيع السلطة والثروة. فالتحولُ السوسيولوجي الذي عرفته المنطقة، والذي أفرز طبقةً وسطى، يُفترض أنها تتطلع إلى قيم التنوير والتحديث، كشف مخزونا غير هَيِّنٍ من التقليد، تحتفظ به هذه الطبقة في لا وعيها الاجتماعي والثقافي؛ مخزون تعكسه النعراتُ المذهبية والطائفية والعشائرية، وعدم احترام الاختلاف والرأي المخالف، والاستقواءُ بقوى الثورة المضادة في مواجهة الخصوم.
كشفت أحداث الربيع العربي المفارقات الدالة التي تنطوي عليها التركيبة المجتمعية والثقافية العربية، فهناك تغييراتٌ، على قدر كبير من الأهمية، حدثت بفعل تأثير العولمة، والتكنولوجيا الحديثة، ونمو الحس المدني، وتنامي الوعي بضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة في العمل السياسي، غير أن ذلك كله، وإن كان له دور حاسم في انطلاق شرارة الثورات وتوهجها، إلا أن فاعليته في السيرورة التي أعقبت سقوط الأنظمة كانت محدودةً للغاية، إن لم نقل منعدمة. ففي مصر، لم تستحضر القوى الثورية، بمختلف أطيافها، في غمرة حنقها على حكم الإخوان المسلمين إبّان النصف الأول من عام 2013، طبيعة العسكرتارية المصرية المعادية للديمقراطية والحكم المدني، وشكلت عصب مظاهرات 30 يونيو، في وقتٍ كانت أمامها خيارات أخرى للضغط على نظام "الإخوان"، وإرغامه على الاستجابة لمطالبها.
كانت صدمة كبيرة أن يقف قطاع من اليسار العربي، بمعظم تشكيلاته الخائبة، في صف قوى الاستبداد والثورة المضادة، بدعوى مواجهة الإرهاب الأصولي، ويكونَ شريكا في استدعاء
لا يتوقف الحصاد المأساوي الذي انتهت إليه معظم ثورات الربيع العربي عند الإخفاق في بناء تعاقدات كبرى، تكون أساسا للتحول الديمقراطي، بل يتجاوزه نحو أوراش القتل والتدمير والإرهاب التي فتحتها القوى الإقليمية والدولية عقابا منها لشعوب المنطقة على تطلعها نحو الحرية والكرامة والديمقراطية. فبعد كل ما حدث، طوال الأعوام السبعة الماضية، من الصعب أن نظل مشدودين إلى روايةٍ ترفض منطق المؤامرة في تفسير الأحداث وتعاقبها، وترى في الربيع العربي نتيجةً حتميةً لتراكم فائض الاستبداد، والفساد، والريع، والاحتقان الاجتماعي والسياسي.
ما حدث ويحدث منذ عام 2013 يعكس، بشكلٍ لا يخلو من دلالة، صراع الأجندات الإقليمية والدولية، ليس لإنهاء موجة العنف والإرهاب والفوضى، بل من أجل الإيغال في تفكيك البنى المجتمعية والأهلية، وإثارة مزيد من النعرات التقليدية، وضرب المجتمعات في استقرارها وأمنها، بهدف إعادة رسم خريطة المنطقة، واستثمار ذلك كله لتمرير صفقة إقليمية مريبة تُجهز على القضية الفلسطينية، وتفتح الباب أمام تطبيعٍ شاملٍ مع الكيان الصهيوني، وذلك بجهود بلدان عربية معلومة.
ما كان دونالد ترامب ليجرؤ على إعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني، لولا الظرفية التي أفرزتها الانتكاسة المدوية للثورات العربية، ووجود حاضنةٍ سياسيةٍ وإعلامية لخطوته داخل كواليس السياسة العربية. وقد كان تصريحه دالا حين قال إن اعتراض السعودية ومصر لم يكن على مضمون قراره، بقدر ما كان على توقيته. كما لم تكن تسريبات صحيفة نيويورك تايمز أخيرا في هذا الصدد أقل دلالة، حين كشفت عن دورٍ تلعبه المخابرات المصرية لإقناع الرأي العام بقبول قرار ترامب، وترويج فكرة أن لا ضرر في الاستعاضة عن القدس برام الله عاصمة لفلسطين.
على الرغم من هذه الحصيلة، لا يمكن إنكار أن الربيع العربي شكل نهاية مرحلة وبداية أخرى، فقد سقط حاجز الخوف الذي سيّجت به النخبُ العربية الحاكمة نفسها في مواجهة الشارع. وإذا كانت الفوضى العارمةُ التي تجتاح المنطقة حاليا قد دفعت الشعوب العربية إلى تفضيل الأمن والاستقرار والتضحية بتطلعاتها السياسية والاجتماعية، فإن هذا الوضع قد لا يستمر طويلا، في ضوء تنامي الوعي بضرورة التغيير، وتآكل شرعية هذه النخب وخطابها.