مرة أخرى، تسقط محاولة الانقلاب على الديمقراطية ونتائجها من قبل المحور المضاد للثورات، ويفشل المعسكر المعارض لحركة "النهضة" في مساعيه لتمرير لوائحه على البرلمان التونسي؛ فبعد سقوط لائحة رفض التدخل الخارجي في ليبيا، والاعتراض على تحركات رئيس الحركة راشد الغنوشي الدبلوماسية، وبعد عدم موافقة مكتب البرلمان على عرض لائحة تصنف "الإخوان المسلمين" "منظمة إرهابية"، فشل أصحاب لائحة حجب الثقة عن الغنوشي، اليوم، في جمع الأغلبية المطلوبة، إذ صوّت 97 نائباً فقط مع اللائحة، التي تحتاج موافقة الأغلبية المطلقة، أي 109 أصوات على الأقل.
وتحمل رمزية إسقاط الغنوشي ضربة تتجاوز الشخص في حد ذاته، فهو وجه من وجوه الانتقال الديمقراطي، كما هو الشأن بالنسبة لمصطفى بن جعفر، رئيس المجلس التأسيسي، أو الراحل الباجي قايد السبسي، والرئيس الأسبق منصف المرزوقي، وغيرهم، سوى أن الغنوشي يرأس أكبر حزب في تونس، وهو شريك في كل الحكومات ما بعد الثورة، وضرب توازنه سيشكل موضوعياً ضربة للاستقرار التونسي الهش، وانتصاراً معنوياً لمناهضي فكرة الثورة أصلاً، التي تقودها رئيسة "الحزب الدستوري الحر" عبير موسي، ويدافع عنها ويدعمها المعسكر الإماراتي.
الغنوشي يرأس أكبر حزب في تونس، وهو شريك في كل الحكومات ما بعد الثورة، وضرب توازنه سيشكل موضوعيا ضربة للاستقرار التونسي الهش، وانتصارا معنويا لمناهضي فكرة الثورة أصلا، التي تقودها رئيسة الحزب الدستوري عبير موسي
وأعلنت لجنة مراقبة عمليات التصويت وإحصاء الأصوات أنّ عدد الأصوات المصرح بها يقدر بـ133 صوتاً، إذ صوّّت مع سحب الثقة من الغنوشي 97 نائباً وصوّت 16 ضدها، فيما سجلت اللجنة 18 ورقة ملغاة و2 ورقة بيضاء.
ولم يشارك ثلث النواب، وهم أساساً من كتلتي "حركة النهضة" (54 نائباً)، و"ائتلاف الكرامة" (19 نائباً)، في عملية التصويت.
وكانت كتل "التيار الديمقراطي" و"الشعب" و"تحيا تونس" و"الإصلاح" و"الدستوري الحر"، تقدمت بلائحة لسحب الثقة من الغنوشي، في معركة رمزية هدفها المباشر هو ضرب "النهضة" في شخص رئيسها، وتقليص دوره في المشهد السياسي وداخل حزبه من ناحية، وتحجيم دور الحركة، وربما وضع أسس جبهة برلمانية جديدة تقصيها من الحكومة ومن قيادة البرلمان من ناحية ثانية.
وظل الغموض مستمراً إلى آخر لحظة، إذ لم يتبيّن إلى أين ستذهب الأصوات المتأرجحة (قلب تونس والمستقبل والكتلة الوطنية) بين هذا الخيار وذاك، وكانت المواقف على مدى اليومين الماضيين بين تشاؤم وتفاؤل في كلا المعسكرين، ما أثار اتهامات من رئيس كتلة "النهضة"، نور الدين البحيري، بدخول الإمارات على الخط، وضخ أموال بغاية ترجيح كفة تصويت بعض النواب.
القيادي في "حركة النهضة"، وزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام، اعتبر، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ جلسة سحب الثقة هي "محطة جديدة جسدت انتصار المسار الديمقراطي، وهي ليست مجرد فوز لراشد الغنوشي، ولكنه فوز وانتصار للتجربة الديمقراطية التونسية، وانتصار أيضاً على القوى المتربصة شراً بتونس، والتي تعمل بالليل والنهار لتخريب المسار الديمقراطي وإرجاع تونس لنقطة الصفر، وإلى مرحلة ما قبل الثورة"، مشيراً إلى أن "ما حصل عنوان للديمقراطية، سواء أتم سحب الثقة أم تجديدها، وهذا مشهد غير متوفر في العالم العربي".
وبيّن أنّ "حركة النهضة فخورة بالآليات الديمقراطية وفخورة أكثر بتجديد الثقة في الغنوشي"، مبيناً أنّ "المخاوف كانت موجودة، وفِي الوقت نفسه كان هناك أمل بالنتائج الحالية، وسببب المخاوف هي عملية التجييش التي حصلت، والتدخلات المكثفة من القوى الإقليمية التي وظفت من أجل الدفع نحو سحب الثقة، والتغطيات الإعلامية من قوى محسوبة على جهات إماراتية".
ولفت إلى أن "الحركة كانت لديها أيضاً ثقة في الحزام البرلماني للغنوشي الذي يمكّنه من الاستمرار في البرلمان".
الغنوشي نشر قبل جلسة اليوم رسالة أكد فيها أنّ "مسيرة تونس في إنجاح ثورتها وترسيخ الديمقراطية والحكم الرشيد مستمرة رغم المؤامرات والدسائس والتدخلات الأجنبية المفضوحة".
و اعتبر أنّ "بقاء راشد الغنوشي في رئاسة مجلس نواب الشعب، أو إبعاده عنها، ليس نهاية الكون، ولا نهاية مسيرة تونس وثورتها، بل سيبقى يعمل ويناضل، من أي موقع يقدره الله له، من أجل شعبه ووطنه وأمته".
وأضاف أنّ "النهضة صامدة في وجه المتآمرين على ثورة تونس وحرية شعبها، سواء أكان الغنوشي على رأسها أم لا، والنهضة فكرة، والفكرة لا تموت مهما تعرضت للسجون والمنافي والتضييق".
وأوضح الغنوشي أن "النهضة تعودت على مدى نصف قرن من عمرها على الملاحقات والسجون والمطاردات والمنافي والتضييقات، ولم يفلّ ذلك في عزمها ولا عزم أبنائها على غرس نبتة الحرية في بلادهم ورعايتها، حتى باتت اليوم شجرة قوية متينة وارفة الظلال يستظل بها أنصار الحرية وأعداؤها على حد سواء، وتغبطهم عليها شعوب العالم العربي".
وإذا كانت "النهضة" قد حققت انتصاراً معنوياً جديداً، فإنه يبقى انتصاراً مؤقتاً ونسبياً، إذ يحمل هذا التصويت دلالات عكسية، أهمها أنّ البرلمان التونسي، والوضع العام من ورائه، منقسم بما يعكس التهديد الحقيقي للانتقال الديمقراطي، لأنّ ضعف الجبهة الداخلية كان دائما بداية للوهن والسقوط.
يحمل هذا التصويت دلالات عكسية، أهمها أن البرلمان التونسي، والوضع العام من ورائه، منقسم بشكل كبير
ويؤشر التصويت أيضاً إلى أن حوالى نصف البرلمان أصبح يعارض "النهضة"، وهي معارضة تجمع أضداداً على المستوى الفكري، ما قد يعني أنّ أخطاء "النهضة" جمعت فرقاء لا تجمعهم مبدئياً أرضية موحدة.
وتدل نتائج التصويت، أيضاً، على أن كتلة "قلب تونس" كانت حاسمة في ترجيح بقاء الغنوشي، وهي التي كانت أيضاً وراء انتخابه لرئاسة المجلس، برغم أن "النهضة" لم تكن في صفها بعد ذلك، خلال محاولة الحبيب الجملي تشكيل حكومته، قبل أن يفشل في نيل ثقة البرلمان، ومن بعدها في حكومة إلياس الفخفاخ، ورضخت للضغوط الرافضة لتشريك "قلب تونس"، قبل أن تتدارك موقفها بالدعوة إلى توسيع الحكومة وإشراك "قلب تونس".
وربما يكون اتفاق الجبهة الجديدة (النهضة وقلب تونس والكرامة والمستقبل)، اختباراً جديداً لها لتمتينها من ناحية، وبداية حوارات جدية مع الكتل والأحزاب التي يُفترض أنها تلتقي معها في أساس فكرة الانتقال الديمقراطي برغم خلافاتها السياسية معها.
واعتبر المحلل السياسي قاسم الغربي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ نتائج لائحة سحب الثقة "بيّنت مكانة التحالف بين حركة النهضة وقلب تونس الذي بدا واضحاً أنه يتجه ليكون تحالفاً استراتيجياً"، مؤكداً أنّ "الكتلة الوطنية والمستقبل لم يكونا موحدين خلال التصويت، وجل المعطيات تشير إلى أنه لا يوجد موقف موحد وهناك خلافات في وجهات النظر تجاه هذه المسألة حتى داخل التيار الديمقراطي".
وبيّن الغربي أن "تجديد الثقة سيمنح حركة النهضة هامشاً أفضل في التفاوض في الحكومة القادمة، ولكن التوتر في مجلس نواب الشعب سيستمر ولن يتم الحد منه إلا بحدوث مشاورات في الدورة القادمة للتهدئة".