إسقاط تمثال كولومبوس .. أميركا وطن من؟

13 يونيو 2020

كولومبوس تمثالا مقطوع الرأس في بوسطن (10/6/2020/Getty)

+ الخط -
بين سلسلة الوقائع والمحطات في مسيرة الاحتجاجات الأميركية، يبدو إسقاط المحتجين الأميركيين تمثال مكتشف أميركا، كريستوفر كولومبوس، نهار الأربعاء 10 يونيو/ حزيران الجاري، من أكثر التطورات اكتنازا بالرمزية، فالمستكشف الإسباني فتح الطريق أمام المستوطنين الأوروبيين لتجارة الرقيق الذين لاحظوا، بعيون حولاء وبنوايا عدائية، أن البلاد فارغة غير مأهولة بالسكان، فيما صادف المستكشف أقواما في الغابات، أطلق عليهم لقب الهنود الحمر، لاعتقاده أنه وطأ أرض الهند، ولأنه احتسب لون هؤلاء أحمر. وبهذا فقد أعاد المحتجون فتح سيرة نشأة أميركا التي قامت وازدهرت، وتناحرت مكوناتها الجديدة، فيما كان المستوطنون الإنكليز والهولنديون والبرتغاليون والأيرلنديون وغيرهم منصرفين إلى مهمة مزدوجة، ترمي إلى استئصال السكان الأصليين من جهة، وإرساء اقتصاد الاستعباد بجلب أفارقة من المستعمرات، مقيدين بالسلاسل، للعمل في الأراضي الشاسعة العائدة للسكان الأوائل.
وقد لوحظ أن إسقاط تمثال كولومبوس جاء بعد أيام على إسقاط تمثال إدوارد كولستون في مدينة بريستول البريطانية، وصاحب التمثال من كبار تجار الرقيق في القرن السابع عشر، فقد أقامت له بلدية المدينة تمثالا، نظير خدماته وتبرّعاته لمستشفيات ومدارس، ومثل هذه الخدمات والتبرعات جليلة ومحمودة، لولا أن الأموال التي أنفقها صاحب التمثال تجمعت لديه من تجارة الرقيق، وهذا ما عملت البلدية على تجاهله، فقام المحتجّون بتذكيرها به!
في بعض الأخبار أن المحتجين الذين أسقطوا تمثال كولومبوس هم من السكان الأصليين لأميركا. وإذا صحّت هذه الأخبار، فإن موجة الاحتجاجات هذه التي تعصف بأميركا وصلت إلى نقطة 
مساءلة القادة عن تاريخ البلاد، وكيف نجح المستوطنون في إبادة ملايين من السكان الأصليين بنشر الأمراض المعدية في صفوفهم، وقطع أشجار الغابات، ونقلهم من مكان إلى آخر، ووضعهم في محابس، وتوقيع الاتفاقيات معهم، ثم نقضها بمصادرة المزيد من أراضيهم، ثم الاستفادة من فارق التسليح لخوض معارك طاحنة سبق لهوليوود أن أنتجت عشرات الأفلام منها، حيث تم تصوير السكان الأصليين متوحشين أمام راعي البقر الذي ينجح كل مرّة في إلحاق الهزيمة بهم. وبهذا يضاف إلى عار الإبادة، عار تزوير التاريخ وترويج العنصرية عبر الأشرطة السينمائية، ثم التلفزيونية، بما فيها المخصصة للأطفال.
وبينما أرغم اصحاب الرواية الرسمية على الاعتراف بالتمييز العنصري والاستعباد بحق أجداد الأميركيين الحاليين ذوي الأصل الأفريقي، فإن الرواية الرسمية تُنكر على السكان الأصليين وجودهم وإقامتهم على تلك الأرض، وتقفز عن المذابح التي ارتكبت بحقهم، مع تحميل الضحايا المسؤولية عن شقائهم، ورد الأمر إلى نزاعات على الأراضي، وانتشار الأمراض في أوساط هؤلاء (فيما خيضت ضدهم حروب جرثومية)، والذين يقيمون حاليا في محميات، ويتلقون خدماتٍ حكومية محدودة، ويتعرّضون للحصار البيئي، ويبلغ تعدادهم نحو ثلاثة ملايين نسمة .. والأهم أنه يجري إسدال ستار صفيق على تاريخهم، باعتبارهم أصحاب الأرض، وأنهم الأميركيون الأوائل، السابقون في وجودهم على هجرات المستوطنين الأوروبيين أوائل القرن السابع عشر. وبين الكتب العربية التي تصدّت لهذه القضية، يبرز كتاب الباحث السوري منير العكش "حق التضحية بالآخر .. أميركا والإبادات الجماعية" (رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2002)، والذي من موقع المشاهدة العيانية والشهادات لأحياء، يرصد تاريخ السكان الأصليين، وكيف تكالب المستوطنون على استئصالهم، بعدما فشلوا في تسخيرهم للعمل عبيداً في الأرض ثلاثة قرون. وقد تزامن هذا الهولوكست المتوحش الذي أودى بحياة أكثر من مئة مليون نسمة مع ازدهار تجارة الرقيق، فيما يواصل أحفاد المستوطنين إنكار المجازر بحق السكان الأصليين، وصولا إلى إنكار وجودهم أمّة أصلية سابقاً ولاحقاً، والتعتيم على روايتهم لتاريخهم المناوئة لتفاهات هوليوود، ولخزانةٍ من الكتب التي تحجب الحقائق، وتقوم بتزوير مُشين لها، كما يلاحظ العكش. ولهذا السبب، ظل الوعي الأميركي السائد مجوّفا، وذلك مع القفز عن التاريخ الفعلي للبلاد، ومع غسل الضمير العام من وزر إبادة الملايين من السكان الأصليين، جنبا إلى جنب مع استعباد الأفارقة، ثم التضحية بحياة هؤلاء، وتكريس التمييز العنصري ضدهم، ومع محطاتٍ مضيئةٍ لرجالٍ مثل أبراهام لينكولن.
وفي ضوء ما تقدّم، باتت موجة الاحتجاجات العارمة تتجاوز مساءلة مؤسسات الشرطة عن تجاوزاتها الفظّة، وإشهار التحدّي في وجه غلاة المتعصبين من البيض (مع عدم استثناء غلاة
السود، على ضآلة عددهم، ممن يدفعون باتجاه فرز عرقي ونزاع أهلي مفتوح، بدل الفرز السياسي والثقافي)، من أجل مواطنة متساوية وعدالة اجتماعية ناجزة، وذلك كله إلى أفق أرحب بتبصير الأميركيين بمحطّاتٍ أساسية سوداء في تاريخهم. حيث إن نهضة أميركا وتبلور الحلم اقترنا بالتضحيات التي بذلها السود لإعمار البلاد، وبأن البلاد بأسرها مُلكٌ لمئات القبائل الأصلية، وأن الاستيلاء على أراضيهم تم بدون تعويضات مجزية، وبدون الاعتذار عن حرب الإبادة ضدهم، وذلك حتى لا تبقى الجذور الأميركية في الوعي السائد معلقةً في الهواء، وتترنّح في السديم وملطخة بالتزوير والتدليس وبالصفحات الممحوّة.
ولا يكتفي أساطين المؤسسة الأميركية (خصوصا من اليمين المتطرّف ومن متدينين متصهينين)، بالقفز عن ذلك التاريخ، وتبهيته، ولكنهم، في آخر اجتهاداتهم، صمّموا لشعب آخر مصيرا يضاهي مصير "الهنود الحمر" عبر "صفقة القرن"، حيث يراد لشعب فلسطين أن يتم زجّه في محميات ومعسكرات ومصانع متباعدة، مع منح الدولة المحتلة مفاتيح البلاد، برّا وبحرا وجوّا، وما هو فوق الأرض وما تحتها، وحرمانهم من مؤسسةٍ سياسيةٍ سيادية، ومن أي حمايةٍ دولية، بحيث يتحولون إلى عبيد في هيئة عصرية (عمالة رخيصة)، لخدمة الدولة اليهودية، وتحقيق أطماع أشد الفئات تطرّفا وعنصرية في المجتمع الإسرائيلي. وهي خطة يصفها واضعوها بأنها للسلام والازدهار، وهي كذلك بالفعل، من أجل سلام المحتلين على الأرض المسلوبة، وفي سبيل ازدهار المشروع الصهيوني.. وبهذا، تتحوّل الدولة العبرية، من خلال الخطة، إلى أميركا مصغرة، وتترسخ قلعة للعنصرية، قبل أن تفيض على المنطقة العربية، فيما يتحوّل الفلسطينيون إلى رافضين مزعومين لسلام مزعوم، سلام بمواصفات القرن السابع عشر الأميركي.