إسرائيل وعرفات: ثأر لا يُعالَج بغير الاغتيال

11 نوفمبر 2014
فراغ هائل في الساحة بعد رحيل عرفات (أشرف عمرة/الأناضول)
+ الخط -

تُثبت الذكرى العاشرة لرحيل زعيم الثورة الفلسطينية وقائدها الشهيد ياسر عرفات، حجم الفائدة التي جنتها إسرائيل من اغتياله، بغضّ النظر عن تفاصيل الاغتيال وملابساته. ومجرّد غياب الرجل الذي نهض بالثورة الفلسطينية طيلة 40 عاماً تقريباً، أوجد فراغاً هائلاً في الساحة الفلسطينية على المستوى القيادي الفاعل والمستوى الاستراتيجي الفلسطيني. ونزع غيابه أيضاً كل ما كان تبقى من شرعية داخلية لاتفاق أوسلو، باعتبار أن ما كان مقبولاً من عرفات ليس مقبولاً بالضرورة من غيره، خصوصاً إذا ما كان المعروض أقل بكثير مما كان "الختيار" يحمله معه.

وأظهرت السنوات العشر، بعد اغتيال عرفات، أن الفائدة الأولى التي جنتها إسرائيل، هي استراتيجية في بُعدها، تتمثّل في إسقاط الخيار المسلّح فلسطينياً، من دون تقديم أو بناء أي خيار حقيقي يمكنه دعم الموقف الفلسطيني العام في أي مفاوضات مع إسرائيل.

وتحوّلت هذه المفاوضات إلى الخيار والبديل الاستراتيجي الوحيد، لدرجة بدا فيها على مرّ السنوات العشر بعد اغتيال عرفات، أن هذه المفاوضات باتت الهدف الأول والأخير للقيادة الفلسطينية، وأن التنسيق الأمني تحوّل إلى العقيدة المسيطرة على هذه القيادة، وأن البقاء في السلطة هو الأساس. ولم تعد السلطة الفلسطينية أداة لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال، ولو وفق معادلة الحل المرحلي أو حتى دولة أريحا.

ويمكن بعد عشرة أعوام من رحيل أبوعمار، القول إن التنسيق الأمني الذي تحوّل إلى عقيدة، بات يمثّل الثوابت الأساسية لقيادة السلطة الفلسطينية، التي حوّلت منظمة التحرير الفلسطينية إلى ذراع لها وأداة تمتشقها متى تريد، بعد أن كانت السلطة، وفق خيارات القيادة الفلسطينية ومنظمة التحرير تحت رئاسة عرفات، وحتى بعد اتفاق أوسلو، جسماً فلسطينياً يضم كافة الفلسطينيين بمن فيهم معارضو التسوية مع إسرائيل، وبيتاً يمكن الرجوع إليه إذا ضاقت أرض أوسلو أو تعثّر مسار المصالحة، ليبقى للفلسطينيين ما يجمع كلمتهم ويوحّدها ولو كخيار مطروح.

لكن سيرورات القضية الفلسطينية بعد رحيل عرفات، وتكريس سلطة الرئيس الحالي محمود عباس، بقيود دايتون وعقيدة التنسيق الأمني، جعلت من منظمة التحرير "كادوك"، أي جسماً عفا عليه الزمن، وفق التعبير نفسه الذي استخدمه عرفات نفسه في ستراسبورغ عام 1989، للتدليل على تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني.

ومثلما قضت مفاوضات واتفاق أوسلو على الانتفاضة الفلسطينية الأولى، مع تقديم بديل مهما كان سيئاً، على هيئة أوسلو، فإن اغتيال الرئيس عرفات، أتى بقيادة عباس وبعقيدة سياسية ترفض الكفاح المسلّح وحتى المقاومة الشعبية بأشكالها المختلفة، وتراهن على "النوايا الحسنة" لا غير لدولة إسرائيل.

هذه العقيدة التي سيطرت على السلطة الفلسطينية بعد عرفات، برزت خلال ثلاث حملات عدوانية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة: عدوان "الرصاص المصبوب" عام 2008 الذي ردّت عليه السلطة الفلسطينية بمؤتمر أنابوليس، معوّلة على رئيس الحكومة الإسرائيلية حينها إيهود أولمرت وحكومته، وعدوان "عمود السحاب" عام 2012، والعدوان الأخير في يوليو/تموز الماضي تحت مسمى "الجرف الصامد"، والتي اكتفت فيها حكومة رام الله، بإطلاق التصريحات الرنانة، والكلام المعسول. بل إنها أفشلت تداعيات تقرير "غولدستون"، الذي كان يمكن لو وظّفته سلطة رام الله كما يجب، أن يؤدي للمرة الأولى في تاريخ الصراع مع إسرائيل، إلى جرّ قادة الاحتلال إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، وتقديمهم للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية.

لكن السلطة الفلسطينية، وكما كشفت وثائق مختلفة، منها وثائق "ويكيليكس"، سارعت في الواقع إلى دفن التقرير، وفضّلت الذهاب بناء على وعود أميركية من إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن إلى مؤتمر أنابوليس.

وتكرّر النهج نفسه بعد عدوان "عمود السحاب" الذي تمخّض بعد الحصار عن مجرد "تفاهمات سبتمبر" الأميركية ـ الإسرائيلية، تحت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما هذه المرة، بتحرير الأسرى القدامى، ووقف الاستيطان، مقابل تسعة أشهر من المفاوضات للوصول إلى اتفاق تسوية، أو اتفاق إطار تبخّر هو الآخر بسبب التعنّت الإسرائيلي، وانفجر في وجه السلطة الفلسطينية وقيادتها في شهر أبريل/نيسان الماضي، مع استبدال خيار المفاوضات بخيار التوجه إلى الأمم المتحدة. وهو الخيار الذي أرجأته "تفاهمات سبتمبر" قبل نحو عام، ليحرق العدوان الأخير على غزة كل أوهام التفاوض مع إسرائيل، من دون أن تأتي نيران الحريق على عقيدة التنسيق الأمني المتواصل إلى اليوم.

وتحوّلت السلطة الفلسطينية، مرة أخرى، إلى مجرد متعهّد للأمن الإسرائيلي، وليتوقف رئيسها، اليوم وفي ظل اعتبارات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الداخلية، وسعيه لضمان ولاية رابعة في الحكومة المقبلة، عن كونه شريكاً للمفاوضات بعد أن وصفه نتنياهو بشريك "حماس" في الإرهاب.

خلاصة القول إن عشر سنوات على رحيل أبوعمار في الظروف التي استشهد فيها، أسدلت الستار على كل ما يمكن أن يرمز أو يشير إلى ثورة فلسطينية قارعت الاحتلال على مدار خمسة عقود تقريباً، ويعود الفلسطينيون إلى شعب لا قيادة موحّدة له ولا برنامج تحرير أو حتى تسوية في الأفق المنظور.

المساهمون