01 نوفمبر 2024
إسرائيل تهمّش "ديمقراطيّتها"
طالما تبجّحت إسرائيل، الدولة القائمة على أنقاض شعبٍ آخر، وعلى أطلال فلسطين، بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في منطقةٍ تكتظ بالدول المستبدّة، والأنظمة القمعية، لكنها، في الفترة الأخيرة، بدأت لا تكترث، حتى بإتقان التزوير، لتسويق هذه الادّعاء، أو لاستبقاء هذا الالتباس بين ديمقراطيةٍ ما مطبقةٍ في الداخل، ولكن ليس بالمساواة التي تتطلَّبها الديمقراطية بين (المواطنين). وهنا نستذكر ما تفعله بحق العرب، أو الفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم، وأرادوا الحفاظ على هُويتهم، من معاملةٍ عنصريةٍ، كما في التصعيد ضد حزب التجمُّع الوطني الديمقراطي في الداخل العربي الفلسطيني، الالتباس بين هذه الديمقراطية والاعتقالات والمداهمات، على الرغم من أن الحزب، كما أكّد أمينه العام، أمطانس شحادة، يعمل في إطار القانون.
هنا، قد يفيد استذكار تلك الأدبيّات الأولى التي استَبَقتْ هذه الدولة، ولا تزال تحكم سيرها.
يقول تيودور هيرتزل "جعلَنا أعداؤنا نتوحّد في ضغينتنا، كما حدث مراراً في التاريخ. الكروب تجمعنا معا، ومن ثم توحّدنا". وكان آحاد هعام (مؤسِّس الصهيونية الثقافية، أو فيلسوف الصهيونية الروحية) يصرّ، على الرغم من علمانيّته، على الاستمرارية اليهودية التاريخية، واستبقاء التقاليد اليهودية، بربط الماضي اليهودي بالحاضر والمستقبل؛ لكون الديانة اليهودية، بحسب رأيه، العامل الرئيس في بقاء اليهود على مرّ العصور.
لكن، بالطبع بقيت الجدليَّة بين القيم الصهيونية يتجاذبها مُكوِّنان: علماني كوني، ومكوِّن ديني، كما في "قانون يهودية دولة إسرائيل" الذي ينصّ على أنّ "إسرائيل دولة ديمقراطية، تقوم على مبادئ الحرية والعدالة والسلام، وفق رؤية أنبياء شعب إسرائيل، كما أنها تلتزم بالحقوق الشخصية لجميع مواطنيها بمقتضى القانون". ويمكن أن نرى، هنا، هذه الرغبة التلفيقية بين ديمقراطيةٍ مُحتكمةٍ إلى رؤية أنبياء شعب إسرائيل، وهو ارتداد تاريخي ديني، والالتزام بالحقوق الشخصية لجميع مواطنيها بمقتضى القانون.
ولعل تغلّب مُكوِّن على آخر يحدث بتأثير من المتغيّرات التي تحيط بهذا المشروع الصهيوني،
المحفوف دوماً، بمنطقةٍ بالغة التعقيد والحراك، منعكساً على عوامل التماسك والاندفاع لدى الشعب الإسرائيلي الصهيوني، كما يشي الاقتباس السابق من كلام هيرتزل.
ثمّة مؤشرات عدّة تتجه إلى تغلّب النزعة اليهودية، وتزيد من سُمْك "القشرة الدينية" التي كانت رقيقةً فوق العناصر القومية والعلمانية، على حساب الديمقراطية، بغير مبالاة كبيرة، بما ظل قادة إسرائيل يفاخرون به، ويستدرّون به، مواقف غربية، مؤيِّدة، من كونهم واحة الديمقراطية في منطقةٍ تعاني من أنظمة دكتاتورية، ومجتمعات غير حداثية.
وقد عبّر غربيّون عن خيبة آمالهم بتلك التحوُّلات السافرة التي جابهت بها إسرائيلُ العالم، نحو مزيد من الممارسات المنطلقة من فكر يهودي ديني، لا يكترث بغير اليهود كثيراً، أو حتى، قليلا.
ولم تقتصر تلك التجليَّات على تصريحات حاخاماتٍ لهم مكانتهم الاعتبارية، كما المشتهر من تصريحات الحاخام عوفادا يوسف (الزعيم الروحي لحزب شاس، ومؤسِّسه، ووصفه بنيامين نتنياهو بأنه عملاق التوراة) الذي دعا إلى إبادة العرب الفلسطينيين، وصفهم بالأفاعي السامَّة والديدان والحشرات، وأنَّ الله ندم على خلقهم، وكما تحريض الحاخام شموئيل إلياهو، الذي قال "على الحكومة أن تجد قانوناً للقضاء على منفّذي العمليات الذين يلقى القبض عليهم فوراً"، كما أنه صاحب الفتوى بتحريم تأجير للعرب. وردًّا على سؤال للحاخام بن تسيون موتسافي: هل مسموح لي أن أركل منفّذ العملية، أو أضربه، أو أطلق النار عليه، بعد القبض عليه، قال موتسافي: ليس ذلك محبَّذا، بل هذه فريضة دينية.
وبدأت هذه التجليات الطامسة للبُعد الديمقراطي، والمستجيبة للبُعد الديني، تصبح سياسة للدولة، ولا نغالي إن قلنا إن أهمّ تلك التجليات هذا الطفوّ المُصِرّ على "يهودية الدولة". صحيح أن الاعتراف الفلسطيني بذلك قد يحقق مكاسب سياسية إستراتيجية على صعيد التفاوض وقضايا الحلّ النهائي، وأهمُّها "حقُّ العودة"، لكنها أيضاً تأتي تعبيراً عن تحوُّل نحو تمكين الصوت الديني. وينص "قانون يهودية دولة إسرائيل" على مساعدة أبناء الشعب اليهودي الذين تحلُّ بهم المصائب، لمجرَّد كونهم يهودا؛ فأين معنى الدولة الحديثة هنا، والمواطنة؟ وإلى أيِّ مدى توغَّل الدينُ في الديمقراطية؟ أو تغوّل فيها؟
هذا الحرص على الاستمرارية التي تربط الماضي اليهودي بالحاضر والمستقبل، برباط ديني، أو بوشيجةٍ من وشائجه، يشي بالإدراك العميق بالحاجة إلى الدين أساساً للوجود، وللاتِّكاء عليه مستقبلا، كلما لزم الأمر، وبقدر ما يلزم.
وهناك مؤشِّراتٌ لا تخطئها العين تشير إلى تصاعد الخطّ البياني نحو تديين الدولة، وتهميش الديمقراطية، حتى اللامبالاة بذاك الوجه الديمقراطي الهشّ، فبَعد الإعلاء من يهودية الدولة،
والإصرار على انتزاع اعترافٍ فلسطيني بها، تأتي ممارساتٌ لم تكن معهودة من قبل، حتى على الاحتلال، من قبيل الملاحقة على الكلمة، بحَّجة أنها تحريضية، حتى في العالم الافتراضي الذي يُفترض أنه ليس المكان الأكثر جِديّة لترتيب عملياتٍ نضالية، أو المكان الأكثر ملاءمةً للتعبئة النضالية، أو الجهادية، بقدر ما هو فضاء للتعبير عن الذات، في لحظاتٍ تنفيسيَّة، لا تبتعد كثيراً عن الانفعالية، وحتى المزاجية. فقبل أيام، قال الناطق الإعلامي لمركز أسرى فلسطين للدراسات، رياض الأشقر، إن الاحتلال نفّذ، منذ أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، عمليات اعتقال واسعة عشوائية ومنظَّمة، بغرض وأد الهبَّة الشعبية ومحاصرتها، وتذرّع بمبرِّراتٍ عديدة لهذا الاعتقال، وبدا لافتاً منها تهمة التحريض على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تعتبر مبرِّراً جديدا للاعتقال، لم يكن موجوداً في سنواتٍ سابقة. مع أنه من الناحية العملية، يصعب على إسرائيل متابعة عشرات آلاف الفلسطينيين الذين يشجعون الانتفاضة والعمليات ضدها، إذ لم يعد بإمكان المخابرات، وفق محلِّل إسرائيلي، التمييز بين من يكتفي بتأييد الانتفاضة ومن ينوي تنفيذ عملية.
كما حكم قاضي محكمة الصلح الإسرائيلية على الشيخ عمر أبو سارة (51 عاماً)، بالسجن الفعلي 8 أشهر، و6 أشهر وقف تنفيذ 3 سنوات، بتهمة "التحريض خلال درس ديني في المسجد الأقصى. ونفى أبو سارة التهمة الموجهة ضده، مؤكداً أن الدرس كان شروحات وتفسيرات لآياتٍ من سورة الإسراء، وأحاديث شريفة، وهي التي ذهب إليها علماء المسلمين منذ القدم، وحتى اليوم، وطالب النيابة والقاضي بإخراج جملة تحريضية واحدة من درسه.
هذا فضلا عن السياسات الاحتلالية المكرَّسة، والمستنكَرة دوليا، كما الاعتقال الإداري التي تدينه منظمةُ العفو الدولية، وتندِّد بارتفاع معدَّلاته أخيراً، مطالبةً بإطلاق جميع المعتقلين إداريا، أو محاكمتهم محاكمة عادلة. وغير بعيد عن هذه السياسة سياسة سحب هُويات المقدسيِّين، وإبعادهم عن القدس، وهدم البيوت، ضمن سياسة العقوبات الجماعية، بما يتنافى مع القانون الدولي.
ولعل من نافل القول التأكيد على مركزية الأمن في العقلية الإسرائيلية، متجذِّرا في صيرورة يهودية صهيونية تستحضر التاريخ اليهودي، كما لا ينسى، بالتأكيد، الصراع العتيد والمتوثِّب، مع أصحاب هذه الأرض الذين لا يزالون، ولم ينقرضوا، كما لم يسلّموا بهذه الدولة الاحتلالية التي تزداد شعوراً بالعداء تجاههم، وتُمعن في استهداف وجودهم، فعلياً ورمزياً.
هنا، قد يفيد استذكار تلك الأدبيّات الأولى التي استَبَقتْ هذه الدولة، ولا تزال تحكم سيرها.
يقول تيودور هيرتزل "جعلَنا أعداؤنا نتوحّد في ضغينتنا، كما حدث مراراً في التاريخ. الكروب تجمعنا معا، ومن ثم توحّدنا". وكان آحاد هعام (مؤسِّس الصهيونية الثقافية، أو فيلسوف الصهيونية الروحية) يصرّ، على الرغم من علمانيّته، على الاستمرارية اليهودية التاريخية، واستبقاء التقاليد اليهودية، بربط الماضي اليهودي بالحاضر والمستقبل؛ لكون الديانة اليهودية، بحسب رأيه، العامل الرئيس في بقاء اليهود على مرّ العصور.
لكن، بالطبع بقيت الجدليَّة بين القيم الصهيونية يتجاذبها مُكوِّنان: علماني كوني، ومكوِّن ديني، كما في "قانون يهودية دولة إسرائيل" الذي ينصّ على أنّ "إسرائيل دولة ديمقراطية، تقوم على مبادئ الحرية والعدالة والسلام، وفق رؤية أنبياء شعب إسرائيل، كما أنها تلتزم بالحقوق الشخصية لجميع مواطنيها بمقتضى القانون". ويمكن أن نرى، هنا، هذه الرغبة التلفيقية بين ديمقراطيةٍ مُحتكمةٍ إلى رؤية أنبياء شعب إسرائيل، وهو ارتداد تاريخي ديني، والالتزام بالحقوق الشخصية لجميع مواطنيها بمقتضى القانون.
ولعل تغلّب مُكوِّن على آخر يحدث بتأثير من المتغيّرات التي تحيط بهذا المشروع الصهيوني،
ثمّة مؤشرات عدّة تتجه إلى تغلّب النزعة اليهودية، وتزيد من سُمْك "القشرة الدينية" التي كانت رقيقةً فوق العناصر القومية والعلمانية، على حساب الديمقراطية، بغير مبالاة كبيرة، بما ظل قادة إسرائيل يفاخرون به، ويستدرّون به، مواقف غربية، مؤيِّدة، من كونهم واحة الديمقراطية في منطقةٍ تعاني من أنظمة دكتاتورية، ومجتمعات غير حداثية.
وقد عبّر غربيّون عن خيبة آمالهم بتلك التحوُّلات السافرة التي جابهت بها إسرائيلُ العالم، نحو مزيد من الممارسات المنطلقة من فكر يهودي ديني، لا يكترث بغير اليهود كثيراً، أو حتى، قليلا.
ولم تقتصر تلك التجليَّات على تصريحات حاخاماتٍ لهم مكانتهم الاعتبارية، كما المشتهر من تصريحات الحاخام عوفادا يوسف (الزعيم الروحي لحزب شاس، ومؤسِّسه، ووصفه بنيامين نتنياهو بأنه عملاق التوراة) الذي دعا إلى إبادة العرب الفلسطينيين، وصفهم بالأفاعي السامَّة والديدان والحشرات، وأنَّ الله ندم على خلقهم، وكما تحريض الحاخام شموئيل إلياهو، الذي قال "على الحكومة أن تجد قانوناً للقضاء على منفّذي العمليات الذين يلقى القبض عليهم فوراً"، كما أنه صاحب الفتوى بتحريم تأجير للعرب. وردًّا على سؤال للحاخام بن تسيون موتسافي: هل مسموح لي أن أركل منفّذ العملية، أو أضربه، أو أطلق النار عليه، بعد القبض عليه، قال موتسافي: ليس ذلك محبَّذا، بل هذه فريضة دينية.
وبدأت هذه التجليات الطامسة للبُعد الديمقراطي، والمستجيبة للبُعد الديني، تصبح سياسة للدولة، ولا نغالي إن قلنا إن أهمّ تلك التجليات هذا الطفوّ المُصِرّ على "يهودية الدولة". صحيح أن الاعتراف الفلسطيني بذلك قد يحقق مكاسب سياسية إستراتيجية على صعيد التفاوض وقضايا الحلّ النهائي، وأهمُّها "حقُّ العودة"، لكنها أيضاً تأتي تعبيراً عن تحوُّل نحو تمكين الصوت الديني. وينص "قانون يهودية دولة إسرائيل" على مساعدة أبناء الشعب اليهودي الذين تحلُّ بهم المصائب، لمجرَّد كونهم يهودا؛ فأين معنى الدولة الحديثة هنا، والمواطنة؟ وإلى أيِّ مدى توغَّل الدينُ في الديمقراطية؟ أو تغوّل فيها؟
هذا الحرص على الاستمرارية التي تربط الماضي اليهودي بالحاضر والمستقبل، برباط ديني، أو بوشيجةٍ من وشائجه، يشي بالإدراك العميق بالحاجة إلى الدين أساساً للوجود، وللاتِّكاء عليه مستقبلا، كلما لزم الأمر، وبقدر ما يلزم.
وهناك مؤشِّراتٌ لا تخطئها العين تشير إلى تصاعد الخطّ البياني نحو تديين الدولة، وتهميش الديمقراطية، حتى اللامبالاة بذاك الوجه الديمقراطي الهشّ، فبَعد الإعلاء من يهودية الدولة،
كما حكم قاضي محكمة الصلح الإسرائيلية على الشيخ عمر أبو سارة (51 عاماً)، بالسجن الفعلي 8 أشهر، و6 أشهر وقف تنفيذ 3 سنوات، بتهمة "التحريض خلال درس ديني في المسجد الأقصى. ونفى أبو سارة التهمة الموجهة ضده، مؤكداً أن الدرس كان شروحات وتفسيرات لآياتٍ من سورة الإسراء، وأحاديث شريفة، وهي التي ذهب إليها علماء المسلمين منذ القدم، وحتى اليوم، وطالب النيابة والقاضي بإخراج جملة تحريضية واحدة من درسه.
هذا فضلا عن السياسات الاحتلالية المكرَّسة، والمستنكَرة دوليا، كما الاعتقال الإداري التي تدينه منظمةُ العفو الدولية، وتندِّد بارتفاع معدَّلاته أخيراً، مطالبةً بإطلاق جميع المعتقلين إداريا، أو محاكمتهم محاكمة عادلة. وغير بعيد عن هذه السياسة سياسة سحب هُويات المقدسيِّين، وإبعادهم عن القدس، وهدم البيوت، ضمن سياسة العقوبات الجماعية، بما يتنافى مع القانون الدولي.
ولعل من نافل القول التأكيد على مركزية الأمن في العقلية الإسرائيلية، متجذِّرا في صيرورة يهودية صهيونية تستحضر التاريخ اليهودي، كما لا ينسى، بالتأكيد، الصراع العتيد والمتوثِّب، مع أصحاب هذه الأرض الذين لا يزالون، ولم ينقرضوا، كما لم يسلّموا بهذه الدولة الاحتلالية التي تزداد شعوراً بالعداء تجاههم، وتُمعن في استهداف وجودهم، فعلياً ورمزياً.
مقالات أخرى
01 أكتوبر 2024
15 سبتمبر 2024
27 اغسطس 2024