14 نوفمبر 2024
إسبانيا على إيقاع سياسي جديد
يبدو أن المشهد السياسي الإسباني مقبل على تحولات كبيرة، بعد الانتخابات المحلية والإقليمية التي جرت في 24 مايو/أيار الماضي، لتجديد 13 برلمانا إقليميا و8122 مجلسا محليا. وقد اتسمت بمنافسة قوية بين الأحزاب التقليدية المنبثقة من سياق التحول الديمقراطي الذي عرفته إسبانيا مع نهاية السبعينيات، وتلك التي أفرزتها المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها البلاد في السنوات الأخيرة.
ولعل أكبر مفاجأة عرفتها هذه الانتخابات تلقي الحزب الشعبي اليميني الحاكم ضربة موجعة، على الرغم من أنه حلَّ أولا بنسبة 27.03 % من الأصوات، إذ تراجع بنسبة 11% عن نتائجه في انتخابات2011، كما أنه فقد الأغلبية المطلقة في بلديات في مدن كبرى، خصوصاً في مدريد التي تعتبر المعقل التاريخي لليمين الإسباني المحافظ. أما الحزب الاشتراكي العمالي، المعارض، فقد حل ثانياً بحصوله على 25.03% من الأصوات، متراجعا بحوالى 2% عن نتائجه في الانتخابات الفائتة. في حين حقق الحزبان الجديدان "بوديموس" و " ثْيودَدانوس" تقدما دالاً في مدن ومناطق عديدة، الأمر الذي تنبأت به معظم استطلاعات الرأي التي أجريت قبيل موعد الاقتراع.
أهم ما يمكن استخلاصه من هذه النتائج، هو التراجع الواضح لليمين قوة اجتماعية شكلت، طوال السنوات الماضية، عنصرَ توازن في مواجهة أحزاب اليسار. وعلى الرغم من أن هذا اليمين لا يزال يحتفظ ببعض النفوذ في مؤسسات الدولة، كالجيش والإدارة، وفي أوساط المال والأعمال، إلا أن هناك مؤشرات على بداية تقلص نفوذه مع التحولات المختلفة التي تجتاح المجتمع الإسباني على أكثر من صعيد. كما أن اليسار التقليدي، ممثلا، بشكل أساسي، في الحزب الاشتراكي العمالي، يعرف أزمة عميقة مع تدهور الأوضاع المعيشية لفئات واسعة من الطبقة الوسطى التي شكلت القاعدة السوسيولوجية لهذا اليسار، منذ بداية الثمانينيات.
يؤشر ذلك كله على نهاية نظام الثنائية الحزبية والتداول على السلطة بين الحزبين، الشعبي المحافظ والاشتراكي العمالي، وهو النظام الذي اعتمدته إسبانيا منذ بداية الثمانينيات تجسيداً لتلك التسوية التاريخية الكبرى التي جرت بين اليمين واليسار، ونقلت البلاد من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، في إحدى أهم تجارب التحول الديمقراطي في العالم. زيادة على ذلك، إن نهاية نظام الثنائية هذا ترتبط بظهور أشكال جديدة للتعبئة الاجتماعية والسياسية، تعكس تحولا نوعيا في تعامل الإسبان مع الشأن السياسي ومع النخب. وقد تشكل، أخيراً، خطاب سياسي مغاير غير معني، بشكل أو بآخر، بالإكراهات التي صاحبت عملية التحول الديمقراطي، بقدر ما هو معني بالمشكلات التي بات يعاني منها معظم الإسبان، مثل البطالة، وتقلص الإنفاق العمومي في مجالات حساسة، كالتعليم والضمان الاجتماعي، وتفشي الفساد واستغلال النفوذ في أوساط النخب والأحزاب التقليدية. في ضوء ذلك، استطاع الحزبان الجديدان "بوديموس" و" ثيوددانوس" أن يعبرا، بشكل قوي، عن هذا الخطاب المغاير، ويحظيا، في فترة وجيزة، باهتمام ومتابعة قطاعات واسعة من المجتمع، خصوصاً بين أوساط الشباب، باعتبارهم أكثر الفئات تضرراً من سياسات الحزب الشعبي الحاكم.
وفي هذا الصدد، قدم حزب "بوديموس" الذي يستلهم جزءاً من خطابه من مبادئ اليسار الاجتماعي ومناهضة العولمة، انتقادات لاذعة للنخب الإسبانية، بالنظر إلى مسؤوليتها عما آلت إليه الأوضاع في البلاد، وعدم قيامها بمراجعات فكرية وسياسية نابعة من الواقع، فضلا عن تورطها في سلسلة فضائح فساد مدوية، هزت الرأي العام أخيراً. ويرى محللون إسبان كثيرون أن التقدم الذي حققه حزب "بوديموس" في هذه الانتخابات يرتبط، إلى حد كبير، بأزمة اليسار التقليدي في إسبانيا، وعجزه عن تقديم حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وتورط بعض قياداته في قضايا فساد، ومهادنته لوبي البنوك الذي يعتبره الإسبان مسؤولاً عن فقدان كثيرين مساكنهم، بسبب العجز عن الأداء.
تؤشر كل هذه المعطيات إلى احتمال تحول إسبانيا نحو نظام حزبي، يتسم بالتعددية، بحيث يعبر عن تعدد مراكز إنتاج القوة داخل المجتمع؛ نظام يمكن أن ينقل الديمقراطية الإسبانية من صيغتها التمثيلية الحالية إلى صيغة أخرى، تنبني على التوافق والتراضي بين مختلف مكونات الطبقة السياسية. ما يعني الانتقال من آلية الأغلبية التي طبعت تاريخ تشكيل الحكومات الإسبانية المتعاقبة، طوال العقود الثلاثة الأخيرة، إلى آلية التحالفات الحكومية التي تتطلب مشاورات موسعة، تأخذ بالاعتبار برامج الأحزاب وتطلعات الناخبين ومراكز القوى وجماعات المصالح ونفوذ اليمين المحافظ والأزمة التي تلقي بظلالها على الاقتصاد الإسباني، مع ما يطرحه ذلك على النخب من تحديات، فيما يتعلق بخبرتها في تشكيل هذه التحالفات وإدارتها.
وتكتسي هذه الانتخابات أهمية إضافية، إذ تطرح مسألةً في غاية الأهمية، تتعلق بطبيعة النخب المحلية التي ستتسلم المسؤولية في تدبير مجالس البلديات والأقاليم، ومدى قدرتها على التفاعل مع المشكلات التي يعاني منها الإسبان، من قبيل تزايد أعداد العاطلين، وتداعيات سياسات التقشف التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة، والإجهاز على مجموعة من المكاسب الاجتماعية، وفقدان الطبقة السياسية مصداقيتها السياسية والأخلاقية، وتزايد الشعور لدى قطاع واسع في المجتمع بالخيبة، إزاءَ كل ما أنتجه مسلسل التحول الديمقراطي.
يبدو أن إسبانيا تعيش على إيقاع سياسي جديد. فإضافة إلى أن هذه الانتخابات قدمت صورة لما يمكن أن تكون عليه الانتخابات العامة المرتقبة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، فإن الأسابيع المقبلة ستشكل محكاً حقيقياً للنخب، بشأن مدى قدرتها على بناء التحالفات الحزبية خلال عملية تشكيل المجالس البلدية والإقليمية. ويمكن القول إن المشاورات التي بدأتها أحزاب الاشتراكي العمالي و"بوديموس" و"ثيوددانوس"، ربما تشير إلى انتقال هادئ وسلس، في كيفية اشتغال النظام السياسي الإسباني بمختلف مكوناته.