إدمان الأرقام الكاسحة

02 مايو 2018
+ الخط -
بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية المصرية أخيراً، تذكرتُ تساؤلًا، قرأته قبل سنوات، عن سر هوس الحكام العرب بالأرقام، وهو تساؤلٌ شيّقٌ تحتاج مقاربته معرفة كيف تدرك الأنظمة العربيّة ذاتها.
الديمقراطيّة بالنسبة لأغلب النخب العربية كانت استيرادًا وليس استبطانًا، والكوارث التي لحقت بالواقع والأخلاق نتيجة هذا الاستيراد تذكّر بتلك التي تسبب بها استيراد التكنولوجيا بدون توطين أساسها النظري، ومقدماتها الأخلاقية، في جهاز الدولة والبورجوازية ومؤسسات التربية. وهكذا، استحالت الانتخابات عربيًا من ممر ديمقراطي إلى تجلٍّ حديث ومشوّه بالضرورة لفكرة "البيعة" في الفقه الإسلامي في عهود الامبراطورية. وقد ثبت أن الأنظمة العربية "العلمانية" اقترفت جريمةً في حق الشعوب العربية، ليس فقط عبر تحالفها مع أكثر رجالات الدين العرب رجعيّةً وذكوريّةً لإدامة التخلف في الثقافة الشعبية العربية، بل إنها مسخت بنفسها، وبدون وسائط أفكارًا حديثة مثل العلمانية والديمقراطية والانتخابات، مكرسةً بذلك التخلف الاجتماعي، وإعاقة توق المجتمع إلى قيمتي الحرية والعدالة، وهو توقٌ أثبتت المجتمعات العربية صدقه وشدّته، كلما سنحت لها الفرصة المناسبة للتعبير عنه.
ليست الانتخابات عند الأنظمة العربية معرضًا لتنافس إرادات الناخبين، بل بيعة "واجبة" يشترط فيها إجماع أهل الحل والعقد، بل وأكثر من ذلك محفلٌ لتجديد الولاء. ومن هنا، يصبح المنافس والمعارض خائنًا، لأنه ليس مواليًا، فلا توجد مسافة طويلة بين الولاء والخيانة، لأن العالم العربي لم يعرف الدولة بتمايزات مؤسساتها وتطورها التاريخي، وإمكانية معارضة النظام وموالاة الدولة. أضف إلى هذا أن أغلب قادة الأنظمة العربية وأركانها هم تاريخيًا خلاصة 
الوعي الريفي، على عكس ما ظلّ يُدّعى طوال نصف قرن إنها النخبة التي تحمي المجتمع من نفسه! وهذا يفسر خطاب إعلام هذه الأنظمة في أثناء الانتخابات، وبعد "فوز" الرئيس؛ فهو خطابٌ يُحيلك إلى خطب ومراسم اختيار شيخ قبيلة أو عمدة قرية، وكذلك الصورة التي تُرسم للرئيس باعتباره "أبًا" ملتزمًا بما كان يسميه الرئيس أنور السادات "أخلاق القرية". وفي حوادث غريبة، عبّر النظام العربي عن فهمٍ رثٍّ، وأحيانًا بدائي، للنظام السياسي وشرعية قادته، ونتذكّر هنا العرائض الموقعة بالدم التي جمعها وزير الدفاع السوري، مصطفى طلاس، من الجنود، تأييدًا و"مبايعة" لحافظ الأسد، عند محاولة انقلاب سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد على نظامه في ثمانينات القرن الماضي.
ومن الطريف أن الأنظمة الجمهوريّة العربية، على اختلاف خطابها العام، وخصوصاً التي تدّعي أنها علمانية، لا تخفي فهمها المتخلف للانتخابات، بل وتسوقه وتعرضه على رؤوس الأشهاد، ولدينا حوادث ومشاهد مُخجلة كثيرة، منها إعلان بعض مشايخ الطرق الصوفية في مصر، في مؤتمرٍ غطاه إعلام النظام وفرح به، "مبايعتهم" حسني مبارك قبيل الانتخابات الرئاسية آنذاك، أو حين أصدر بعض شيوخ السلفيّة في دمّاج (اليمن)، منضوين تحت جناح نظام علي عبدالله صالح، أشرطةً وبياناتٍ تؤكد على حُرمة الخروج على ولي الأمر بالتصويت لمنافسه في انتخابات الرئاسة عام 2006.
بالإضافة إلى ذلك، وبالتوازي مع أن ما يسمى "عُرسًا ديمقراطيًا" قد أصبح مع الزمن كذبةً لم تعد تصدق ذاتها بله أن يصدقها الآخرون، لا تزال الأنظمة العربيّة تستبطن إرث الدكتاتوريات الشعبيّة في مرحلة الحرب الباردة، فيما يخص رؤيتها للشرعيّة الشعبيّة للنظام؛ فالدكتاتوريّة التي لا تعترف بالليبرالية السياسيّة تصبح بالتأكيد مجروحةً، وليست في مركز قوةٍ، لأن "شعبيتها" غير قابلة لقياس عقلاني ومنظم ودقيق، كما يحدث في عمليات الانتخابات الديمقراطيّة. ولهذا "تحتاج" الدكتاتوريّات المتشنجة، لتجاوز هذا الخلل الواضح، بدائل إظهار الشعبيّة التي تعصف بأي جدل: الاستفتاءات بأرقامها "الكاسحة"، والتظاهرات بجحافلها "العارمة"، والتي تؤكد على فكرة حيوية لأي دكتاتوريّة: المجتمع ليس اتجاهات وتيارات، بل "جوهر" أو كتلة واحدة تحتاج قائدًا. ومجرّد الاعتراف بوجود تيارات وآراء وطنيّة متضاربة في المجتمع، تصبح الحاجة إلى سياسيين ورجال دولة وأحزاب عاتية هي الأولى، وتتلاشى الحاجة إلى زُعماء. ومن هنا، لا يمكن الاحتفاظ بالزعامة مع أرقام متواضعة؛ فالفكرة القابعة وراء الرقم المقترب من نسبة 100% تمسّ فهم نخب النظام للمجتمع ولذاتها.
الإشكال الكبير هنا أن أنظمة الخمسينيات والستينيّات الشعبويّة كانت ذات شعبيّة كبيرة فعًلا، في حين أن الأنظمة الحالية، وبعد زلزال 2011، لا تزال تحمل الأفكار نفسها، ولكن في سياق مختلف كثيرًا على الصعيدين السياسي والاجتماعي، وحتى على صعيد تركيبة النظام، يحولها من أفكارٍ مفهومة في سياقها التاريخي إلى وسيلة فضح وتشهير علني ذاتي، يتبرّع بها النظام من تلقاء نفسه في السياق الراهن.
ويبقى عامل شخصي/ نفسي أخير يستحق الذكر، وهو "صورة" جمال عبد الناصر الذي كان دكتاتورًا يمثل تيارًا سياسيًا مجاهرًا بعدائه الديمقراطية السياسية بالقول والفعل، إلى أن يصبح المجتمع مستعدًا لها، بحسب أدبيات هذا التيار. ولهذا فتأثيره لم يكن في عدائه الكارثي 
الديمقراطية السياسية، مع التأكيد هنا بأنه كان من الرؤساء العرب القلائل الذين لم يسيطر عليهم الوعي القروي، لكنه مع ذلك لعب دورًا محوريًا في إشكال الأنظمة العربية المستحكم مع الانتخابات بصورتين مباشرة وغير مباشرة، والمباشر منها كان في استفتاءاته التي تجرّأت، وتخطت حدود المعقول والتهذيب، والتي كانت النكتة السياسية، ولا تزال، تتمثلها على الدوام في حقول مختلفة وإزاحات شتى تُنسي بعضهم أصلها الأول، خصوصاً رقم 99.9 المدهش في استخفافه بعقول الآخرين.
أما التأثير غير المباشر فهو نفسي، فكل رئيس عربي يعاني مما يمكن تسميتها "عقدة" عبد الناصر. وتتجلى هذه في مناهج التربية الوطنية في المدارس، وفي خطب الرؤساء في المحافل العربية والمحلية، وفي خطاب إعلام النظام العربي الجمهوري، والذي يبذل جهودًا خارقة تبعث على التعاطف في اختلاق كاريزما لشخصياتٍ متواضعةٍ لكي تداني كاريزما عبد الناصر الكاسحة (بغض النظر الآن عن رأينا بأن أغلب شروط هذه الكاريزما تقع خارج "ذات" عبد الناصر وإمكاناته الشخصية). ولهذا، لا يرضى الديكتاتور العربي إلا بأن يدرك ذاته زعيما عروبيا، وليس فقط زعيما محليا، من دون أن ترافق هذه الرغبة المحمومة والتقمص المَرَضي مشاريع ومواقف محلية وعربية تخلق الجاذبية و"الزعامة". ولهذا، فالرئيس العربي الذي يرى في نفسه زعيمًا، ويريد من الناس أن "يشتروا" هذه الصورة، يجب أن يكون كاسحًا على الأقل في الدولة القُطرية.
لهذا، ولغيره من الأسباب التي تحتاج بحثًا مفصلًا، كان لزامًا على صناديق الاقتراع في مصر قبل أسابيع، وقبلها في سورية والسودان، أن تخرج برقمٍ كاسحٍ يُهدّئ من العقد والأمراض التاريخية للنظام العربي، ممثلًا هذه المرة بنظام عبد الفتاح السيسي الذي حطم أرقامًا قياسية في الفشل المركب: فشل الاقتصاد والسياسة والتوجهات الاجتماعية، بل وحتى الفشل في الحفاظ على الجغرافيا.
8AC1ED65-78A2-4712-AD9B-FBCD829DA394
أيمن نبيل

كاتب يمني، من مواليد 1991، يقيم في ألمانيا لدراسة الفيزياء النظرية. نشر عدة مقالات في السياسة والاجتماع والثقافة والفنون، في عدة صحف يمنية.