بين عشية وضحاها، وجدت مها صلاح الدين، ابنها وليد أحمد علي، حديث المصريين جميعاً، إذ نشر تنظيم يسمى "العقاب الثوري" فيديو "لاعتراف الابن وليد، بتعاونه مع الشرطة وعمله مرشدا لصالح وزارة الداخلية، في رصد مسيرات جماعة الإخوان المسلمين، في حلون، وتسليم عدد من المشاركين المحددين بها، إلى الأجهزة الأمنية".
في الفيديو يعترف وليد بتعاونه مع قسم شرطة حلوان الواقع جنوب العاصمة المصرية القاهرة، محذراً "عملاء المباحث من مصير مشابه لمصيره"، الذي جاء في نهاية الفيديو بمشهد لشخص مقيد لا تظهر ملامحه بسبب الظلام، تم قتله بالرصاص في منطقة صحرواية.
بداية القصة
تتبعت "العربي الجديد" الفيديو، الذي قال التنظيم الذي بثه على شبكة الإنترنت، في أوله، إن الشاب القتيل من أبناء منطقة مساكن مصر العليا في حلوان. انتقلت كاتبة التحقيق إلى المنطقة، نجحت في الوصول إلى الأم، التي وافقت وبصعوبة بالغة، على الحديث إلى وسيلة إعلامية، بسبب "فقدانها الثقة في الإعلام"، كما قالت لـ" العربي الجديد"، متابعة: "صحيفة كبيرة تلاعبت عن طريق المونتاج بفيديو تم تسجيله معي، تم نشر جزء بسيط من حديثي، وتم تغييب اتهامي لأجهزة الأمن بإجبار ابني على العمل كمرشد لصالح وزارة الداخلية". أضافت موضحة "سجل معي موقع صحافي آخر وقناة تلفزيونية حديثين بالفيديو، ولم ينشروهما كذلك بسبب اتهامي للداخلية بإجبار ابني على العمل كمرشد لها".
لكن كيف تم إجبار وليد على العمل مع الشرطة، تجيب والدته باكية:" وليد أصيب برصاص حي أمام قسم شرطة حلوان في الأحداث التى تلت فض ميدان رابعة والنهضة. تم القبض عليه وحبسه وقتها، ثم خرج من القسم. ظل تحت المتابعة الأمنية، بمساعدة شخص يسمى محمد رمضان، وحتى الآن لا أعلم ما هي وظيفته في قسم الشرطة، اعترضت على الأمر بعدما عرفت، لكن كانت إجابة وليد أنه مضطر لذلك ولا يملك خياراً".
تتابع والدة قتيل "العقاب الثوري" أنه وتحت ضغط الداخلية كان وليد يبلغ محمد رمضان وضابطاً يدعى، وائل غنيم، بأسماء المشاركين في المسيرات الإخوانية كما كان القسم يستخدم سيارة وليد (الميكروباص) فى الحملات الأمنية مقابل عدم التعرض له في الطريق، إلا أنه قرر عدم استكمال العمل مع الشرطة بسبب ما رآه من ظلم للمعتقلين وعمليات مشبوهة للداخلية، وقد أبلغ محمد رمضان بذلك كاشفا عن ذلك في رسالة تركها لي.
يوم الاختفاء
يوم اختفاء وليد في الخامس من مايو/ أيار الماضي انتظرته والدته، لأن يعود إلى البيت طويلا، هاتفه أصبح مغلقا. تقول الأم: "ظننت وقتها أنه سيعمل يومين متتاليين كما كان يفعل، ولكنه لم يعد في اليوم الثاني. ذهبت إلى موقف الميكروباص الذي يعمل فيه لسؤال زملائه، أخبروني أنه سلم الوردية في اليوم السابق في الساعة 11 ونصف مساء، ولم يأت اليوم إلى العمل".
يوم استلام جثة وليد، سمعت بالمصادفة خلال وجودي في المواصلات بوجود جثة مجهولة في المشرحة، وفعلا ذهبت لأجد وليد هناك. قدمت بلاغا في محمد رمضان الذي كان يتصل بابني باستمرار، اتهمته بقتل ابني، فأرسلوا من يقتحم منزلي ويفتش في أغراض وليد، ويستولى على جهاز الكمبيوتر الخاص به، وبعد ذهابي إلى النيابة، وجدت أن كل أقوالي في البلاغ، الذي اتهمتُ رمضان وضابط القسم فيه بقتل ابني ، لا وجود لها، واختفى الخطاب الذي قدمته إلى القسم، والذي يثبت أن ابني كان متعاونا معهم لفترة وبعد ذلك رفض هذا التعاون، إلا أنني احتفظت بصورة من الخطاب".
ليست الحالة الأولى
"لا يوجد قانون يتناول قضية إجبار المدنيين على العمل مع جهات الأمن، لكن الابتزاز والتهديد باستخدام السلطة هو المجرم" هكذا بدأت مها يوسف، محامية حقوقية عملت لفترة في قضايا التعذيب بمركز النديم، حديثها لـ"العربي الجديد".
تضيف مها، من واقع خبرتها في قضايا مماثلة، أن "أغلب المرشدين لا يحبون هذا العمل ويرفضونه في البداية إلا أنه تحت الضغط أو الابتزاز والتهديد، أو حتى التعذيب، ينغمسون فيه حتى الغرق كما جرى مع حالة قتيل العقاب الثوري".
تغيب عن مصر أية إحصائيات توثيقية حقوقية لهذه الظاهرة، بحسب المحامية مها يوسف، إلا أنه يمكن القول إنها مكررة وتتم بشكل ممنهج سواء في الأمن الجنائي أو السياسي، ولا يمكن معرفة أكثر الفئات المستهدفة من إجبار الشرطة لهم على العمل معها، ولكن يمكن القول إن أكثر الفئات استهدافاً هي الشرائح الفقيرة، وكذلك المسجلون (خطر)، أو المنظورة قضاياهم إذ يكون للتهديد بتلفيق قضايا أخرى أو التعذيب أو الترغيب في إنهاء القضية أو عمل تحريات في صالحهم، مفعول السحر، لكن في العديد من القضايا تكون حياة المدني مهددة وعلى المحك.
أشارت يوسف إلى أن أغلب القضايا لا يمكن إثبات واقعة الإكراه، لأن المعتاد ألا تخرج واقعة الإكراه إلى الضوء إلا بسبب التعذيب البدني، وفي أغلب حالات التعذيب المتهم فيها رجال الشرطة لا يتم اتخاذ الإجراءات الواجبة للإثبات، بالإضافة إلى خوف الضحية وكذلك قصور القوانين المتعلقة بالعقاب في قضايا التعذيب.
القضاء ينصف فتحي بعد موته
رغم صعوبة إثبات واقعة الإكراه، إلا أن قليلاً من الحالات تخرج إلى النور بسبب شكاوى أصحابها أو وفاتهم جراء التعذيب، وهو ما جرى في حالة، فتحي فوزي صالح، الذي تمت إدانة ضابطين و6 أمناء شرطة في 2012، بعد تعذيبهم له حتى الموت لإجباره على العمل كمرشد لوحدة مباحث قسم شرطة المعادي.
طبقاً لأوراق القضية رقم 5502 لسنة 81 قضائية، والتي اطلعت عليها "العربي الجديد"، فإن المتهم تعرض للتعذيب والضرب المبرح، الذي أدى لإصابة المجني عليه بكسر في الجمجمة، مما نتج عنه إصابته بشلل رباعي، ولم يعان المجني عليه من الشلل طويلاً حتى سقط ميتاً جراء التعذيب، فيما اعترف الضباط المدانون بأن المجني عليه كان مسجلاً (خطر)، وكان استدعاؤه للقسم لتجنيده كمرشد، وقد رفض المجني عليه، فقاموا بتعذيبه.
صورة من خطاب قتيل العقاب الثوري إلى أمه قبل أيام من قتله (العربي الجديد) |
الاعتقال جزء من نصيب الرافضين
لا تخلو بعض تقارير المراكز الحقوقية المصرية، حول التعذيب، من واقعة تعذيب مواطن لإجباره على العمل كمرشد لأجهزة الأمن، ويرصد تقرير"التعذيب في مصر..أقسام ومراكز الشرطة سيئة السمعة" واقعة المواطن، محمد أحمد متولي محمد البياني، الذي تقدم والده ببلاغ رقم 1177 لسنة 2008 يتهم فيه رئيس مباحث كفر الدوار، باختطاف محمد وتهديده بتلفيق تهمة سرقة بالإكراه له، لإجباره على العمل كمرشد، ورغم مطالبة والده بعرضه على النيابة، إلا أن رئيس المباحث ماطل وتم ترحيل الشاب إلى قسمي رشيد والبرلس ثم لنقطة شرطة النوبارية، بعدها صدر قرار اعتقال عملاً بقانون الطوارئ الساري وقتها.
ليس لي حق الرفض
"كلنا مرشدين على بعض" يقولها خالد محمد (اسم مستعار) لشاب متعاون مع وزارة الداخلية في إحدى مدن محافظة القليوبية، شمالي العاصمة المصرية القاهرة، ويضيف لـ"العربي الجديد": لم أرفض العمل كمرشد لأنه يضمن لي حماية، ولأن رفضي سيكون جزاؤه التعذيب أو القتل كما جرى سابقاً مع صديق مسجل (خطر) رفض أن يكون عصفورة، (لقب يطلق على المتعاونين مع المباحث)، فتم تعذيبه وإلقاء جثته وسط الأراضي الزراعية".
لم يتسنّ لـ"العربي الجديد" التأكد من الرواية السابقة، إلا أن بلاغاً مسجلاً، تم نشره ضمن تقرير مركز الحرية الآن للدراسات التنموية الحقوقية، عن حالة مماثلة في تلك المنطقة، لشاب وجد مقتولا لم تتم إدانة المتهم فيها، يؤكد صحة ما ذهب إليه الشاب المتعاون مع الأمن".
من يعملون مع وزارة الداخلية كمرشدين، يظلون في دائرة الخطر، وسط بيئتهم المحلية ممن يراقبونهم، إذ إن كل من يتم تسليمه للأمن بعد قضائه عقوبة بسبب الإبلاغ عنه عادة ما يعود إلى الانتقام من "العصفورة"، أي المرشد الذي أبلغ عنه، كما يقول خالد، ولكن في المقابل فإن رفض العمل لدى الضابط يعتبر إهانة له، ويكون الجزاء التعذيب المبرح حتى إجباره على الموافقة، بالإضافة إلى كون أغلب من يطلب منهم العمل كمرشدين في الأصل مسجلين (خطر) وهو ما يضعف من موقفهم أمام القضاء، في حال تقدموا ببلاغات ضد الضباط، كما أن الإعلام لا يتعاطف مع قضاياهم بحسب مختص حقوقي.
الداخلية: ننتظر رد القضاء
توجهت "العربي الجديد" إلى وزارة الداخلية المصرية، للحصول على ردها على واقعة قتيل العقاب الثوري، وصحة إجباره على العمل مرشدا للأمن، إلا أن اللواء، أبو بكر عبد الكريم، مساعد وزير الداخلية لشؤون قطاع حقوق الإنسان والعلاقات العامة والإعلام، رفض التعليق قائلاً لــ"العربي الجديد":"الواقعة المذكورة لقتيل العقاب الثوري ما زالت قيد التحقيق، ولا تعليق عليها، وأية وقائع أخرى لم تخضع للقضاء لا يمكن التأكد من صحتها حتى يتم التعليق عليها".
--------
اقرأ أيضاً :
فرق الموت.. الإصدار المصري من طريق الهلاك