تخفي الأضواء اللامعة التي تزيّن شوارع ومتاجر أوروبا أيام "الكريسماس"، والحفلات الصاخبة التي تنعش المطاعم والفنادق هذه الأيام، وراءها مشاهد من الفقر والبؤس تظلّل حياة 28 مليون عاطل من العمل وعشرات الملايين من ذوي الدخول المنخفضة الذين يجاهدون للخروج من دائرة الفقر في أوروبا.
فالبطالة ترتفع وفرص التوظيف تقل والديون تتراكم في العديد من دول منطقة اليورو، ويواجه الخريجون الجدد من أفضل الجامعات صعوبة في الحصول على عمل.إنها مأساة أوروبا التي قد تبدو غير واضحة بالنسبة للزائر العربي، ولكنها حقيقة ماثلة للعيان
للذين يعيشون في أوروبا. وبالتالي فالمستقبل لا يبدو مشرقاً في القارة البيضاء العجوز، وهي تغادر العام 2014 لتخطو نحو العام الجديد 2015.
ولا يستبعد خبراء الإقتصاد في لندن تدخل منطقة اليورو، التي خرجت حديثاً من أسوأ أزمة مالية، مرة أخرى في دوامة الإفلاس والبحث عن حزم إنقاذ جديدة، وخصوصاً أن العديد من دول اليورو ترتفع فيها معدلات الديون فوق نسبة 100% من إجمالي ناتجها القومي. فالمستثمرون يهربون من السندات اليونانية منذ شهور ويبيعون اليورو ويشترون الدولار.
والحال هذه لا تبشّر الأوروبيين بعام جديد سعيد وإنما تنذر بكوارث اقتصادية، ربما تدخل أوروبا في فوضى سياسية اجتماعية تغذيها جيوش البطالة والشباب اليائس، مثلما حدث من مشاهد في العديد من الدول الأوروبية خلال عامي 2011 و2012.
ويرى خبراء اقتصاد في لندن أن منطقة اليورو تحديداً التي تضم 18 دولة أوروبية وتشترك في عملة اليورو، ربما تواجه موجة من هروب الرساميل في العام المقبل، وسط الارتفاع المستمر للدولار والضعف المتواصل لليورو. ويقدّر خبراء مؤسسة "موني آند ماركتس" أن تبلغ كميات الأموال التي ستغادر أوروبا في العام المقبل بنحو ترليون يورو (نحو 1.3 ترليون دولار).
ويتمثّل الأمل الوحيد بالنسبة للأوروبيين في ضخ البنك المركزي الأوروبي لمزيد من الأموال في اقتصاديات منطقة اليورو واتّباع سياسة تحفيزية شبيهة بالسياسة التي اتبعها مصرف الاحتياط الأميركي لإخراج الاقتصاد الأميركي من أزمة المال في العام 2008.
مآسي التقشف والديون
سياسة التقشف التي تتبعها أوروبا حالياً تواصل تأثيرها السلبي على معدل نمو اقتصاديات منطقة اليورو، التي لم تخرج بعد من أزمة الديون التي ضربتها قبل ثلاث سنوات. ومن المؤشرات الدالة على ذلك، أن نسبة الديون الى الناتج المحلي في اليونان قبل اشتعال أزمة اليورو فى العام 2011، كانت 113% . والآن، بعد برنامج الإنقاذ الاقتصادي وكل الاعفاءات التي منحت لليونان، يبلغ حجم ديونها كنسبة من إجمالي حجم الاقتصاد، 174%.
وهذا بالتأكيد مؤشر خطير أن اليونان لم تخرج بعد من نفق الإفلاس المظلم.
وفي إسبانيا كانت الديون قبل أزمة اليورو 40% من الناتج المحلي، والآن تبلغ 97%.
وفي إيطاليا، تفوق نسبة الديون الى الناتج المحلي 100%، وكذلك حال الديون الفرنسية التي تتجه لتفوق نسبة الـ100% في العام المقبل، وهذه النسبة المرتفعة من الديون تعني أن كل إجراءات التقشف التى نفذتها دول منطقة اليورو
خلال الأعوام الماضية، ومنذ العام 2012، لم تفلح في خفض مستويات الديون، رغم أنها ضاعفت من المعاناة المعيشية لمواطني دول اليورو ورفعت من معدلات البطالة.
يلاحظ، وحسب إحصائيات "يورو ستات"، فإن جميع دول منطقة اليورو التي تم إنقاذها من براثن الإفلاس خلال عامي 2011 و2012، لم تتمكن من التعافي الاقتصادي.
وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن جميع هذه الدول، وهي اليونان وإسبانيا والبرتغال وقبرص، تعاني من ارتفاع معدلات البطالة وتواجه احتمالات الاضطرابات والفوضى السياسية تحت وطأة الضغوط المعيشية وانحسار دولة الرفاه والمعاناة واليأس.
فالبطالة في إسبانيا بلغت 24%، وفي البرتغال 13.4%، وفي ايطاليا 13.2%، واليونان 25.9%. ولكن يلاحظ أن البطالة وسط الشباب تحت 25 عاماً، في هذه الدول أعلى بكثير من هذه النسب، وتقدّر في المتوسط بنحو 23.2%.
وحسب تقديرات المحلل الاقتصادي لاري إيدلسون، في تعليقات أرسلها بالبريد الإلكتروني لـ"العربي الجديد"، فإن هنالك نحو 28 مليون عاطل من العمل في دول الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 28 دولة. وتعد دول منطقة اليورو، البالغ عددها 18 دولة، الأسوأ من حيث معدل البطالة.
هاجس التضخم:
في ظروف الصحة الاقتصادية، عادة ما يكون هاجس ارتفاع التضخم، هو الذي يشغل بال الحكومات ومخططي السياسة المالية والنقدية.
ولكن المصيبة الأكبر بالنسبة لأية دولة أن يكون انخفاض معدل التضخم هو "الهاجس الأكبر" لها، إذ إن ذلك يعني أن الطلب على شراء السلع منخفض جداً وأن معدل النمو الاقتصادي يقترب من التوقف. فالمستهلك، في هذه الحالة، يؤجل مشترياته الآنية إلى المستقبل، ويقول لسان حاله "لماذ أشتري اليوم إذا كانت السلع سترخص غداً".
وهذا بالضبط ما يحدث الآن، في دول الاتحاد الأوروبي التي يقل فيها معدل التضخم عن 0.4%، حسب إحصائيات "يوروستات". وهذا المعدل المنخفض يخلق مجموعة من المشاكل الاقتصادية والمالية في دول الاتحاد الأوروبي.
أكبر هذه المشاكل، تباطؤ النشاط الاقتصادي، الذي ينعكس سلباً على انخفاض نسب التشغيل والوظائف الجديدة، وبالتالي يرتفع معدل البطالة، لأن الشركات تصبح في هذه الحالة غير واثقة من مستقبل الطلب على سلعها، وتلجأ تلقائياً إلى خفض أكلاف التشغيل عبر تقليل عدد العمال والموظفين. وهذا الخفض يترجم تلقائياً في ارتفاع معدلات البطالة.
وحينما ترتفع معدلات البطالة في أي اقتصاد تقل القوة الشرائية ويزيد معدل الإنفاق الحكومي على بنود الرفاه الاجتماعي.
دولة الرفاه
يجب الأخذ في الاعتبار أن دول الاتحاد الأوروبي تتبنى جميعها نظام الرفاه الاجتماعي الذي
يحتوي على نظام الضمان الاجتماعي.
ووفقاً لنظام الضمان الاجتماعي، فإن المواطن العاطل من العمل يحصل على مرتب شهري وعلاج مجاني وكثير من الامتيازات الأخرى التي تمنع تدهور مستوى معيشته من الهبوط إلى مستوى الفقر. وبالتالي يلاحظ كلما ارتفع معدل البطالة في دول الاتحاد الأوروبي، ارتفع تلقائياً حجم الإنفاق الحكومي وقل تبعاً لذلك الدخل الحكومي المتحصّل من الضرائب.
من هذا المنطلق، فإن ارتفاع معدل البطالة في أوروبا يعني تلقائياً زيادة عجز الميزانيات الأوروبية وارتفاع معدلات الدين. ويلاحظ أن هذه الدائرة الخطرة هي التي تهدد مستقبل أوروبا منذ أزمة المال العالمية، ولا تزال غير قادرة على الخروج من هذه الدائرة الخطرة التي يتوقع اقتصاديون أن تعيدها إلى الإفلاس مجدداً وربما الفوضى.