بعد أربعة أعوام من القصف وخمسة أشهر من الحصار الخانق، أطلقت قوات أمن النظام السوري حملة اعتقالات استهدفت شباب العائلات النازحة، بحجة أنهم متخلفون عن الخدمة العسكرية، بعد انتقالهم من مناطقهم المحاصرة إلى تلك الخاضعة للنظام بحثاً عن أمان مفقود، وفق شهاداتٍ وثّقها "العربي الجديد" عبر نازحين انتقلوا من أحياء المعارضة إلى تلك التي يسيطر عليها النظام.
ويعاني أهالي شرقيّ حلب نتيجة القصف المتواصل لطائرات النظام منذ أربعة أعوام، والتي ألقت 19947 برميلاً متفجراً على الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة، منذ فبراير/شباط 2014، (تاريخ صدور قرار مجلس الأمن 2139 الذي دان استخدام البراميل المتفجرة ضد المدنيين)، وحتى فبراير/شباط 2016، وفقاً لإحصاء صادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والتي وثّقت اشتداد عمليات قصف شرقي حلب منذ بداية التدخّل الروسي العسكري في المعارك في سبتمبر/أيلول 2015، إذ ألقت طائرات الأسد 16098 برميلاً على مناطق سيطرة المعارضة حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
ومنذ سيطرة المعارضة في صيف عام 2012 على الأحياء الشرقية لمدينة حلب، لم تقع عمليات نزوح تشبه تلك التي تجري في الوقت الحالي، على الرغم من قصفهم خلال هذه السنوات بكل أنواع الأسلحة المتوسطة والخفيفة والثقيلة، إضافة إلى حصارهم منذ منتصف يوليو/حزيران وحتى ديسمبر/كانون الأول الجاري، وفق ما يؤكده ناشطون سوريون ينتمون إلى الأحياء الشرقية.
غير أن تصاعد القتال في شرقي حلب أجبر السكان البالغ عددهم قرابة 270 ألف مدني وفقاً لتصريحات المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي مستورا في سبتمبر/أيلول 2016 خلال جلسة طارئة في مجلس الأمن، على الانتقال إلى مناطق النظام التي تبلغ مساحتها قرابة مائة كيلومتر مربع من بين إجمالي مساحة المدينة التي تبلغ 190 كيلومتراً مربعاً.
ويؤكد الناشط الصحافي عمر خبّاز، والذي كان يعمل في حي مساكن هنانو طيلة سنوات الثورة أن "مدنيي الحي انقسموا بين من انسحبوا إلى مناطق أخرى مثل أحياء طريق الباب والشعار وكرم الجبل (تحت سيطرة المعارضة)، في حين أُجبر آخرون على الاتجاه نحو مناطق النظام من جهة حي مساكن هنانو تحت ضغوط المعارك والقصف الذي تعرضوا له".
ولفت خبّاز إلى أن قوات النظام حققت مع الدفعة الأولى من نازحي شرقي حلب نحو الطرف الغربي منها في 15 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إثر إحكام سيطرة النظام على حي مساكن هنانو، أكبر أحياء المدينة.
وأشار الناشط خباز إلى أنه عقب حصار الجزء الشرقي لمدينة حلب في تموز/يوليو الماضي، أعلنت روسيا عن مبادرة إنسانية وفتحت أربعة معابر من أجل خروج المدنيين والمقاتلين من حلب، إلّا أهالي المدينة الذين أصروا على البقاء فيها، غير أن التوغّل البري لقوات نظام الأسد والمليشيات المساندة لها أجبر المدنيين على الخروج نحو مناطق قوات الأسد غربيّ حلب.
اعتقال على المعابر
نزح نحو 190 ألف مدني من المناطق المحاصرة شرقي حلب، نحو مناطق النظام في غرب المدينة، منذ بدء الهجوم البري في 15 نوفمبر/تشرين الثاني، إذ كان عدد المحاصرين قبل هجوم قوات النظام البري يُقدّر بحوالي 270 ألفاً، وانخفض العدد إلى قرابة 80 ألفاً كان من المفترض أن يخرجوا على دفعاتٍ بموجب اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم بتوافق تركي وروسي، والذي فشل بسبب استئناف القصف على المدينة من قبل النظام وحلفائه.
وتؤكد شهادات لعائلات نزحت من حي كرم الجبل في شرق حلب، نحو المناطق الغربية، اعتقال شباب نازحين على المعابر، ويقول رب الأسرة أبو عبدو، إن "جميع الشُبّان المطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية أو الاحتياطية في جيش النظام جرى سحبهم من على المعابر".
وأضاف أن "الأجهزة الأمنية على مداخل المعابر التي يخرج منها المدنيون كانت لديها أجهزة كشف "تفييش" للتأكد من هوية كل شاب مطلوب للخدمة العسكرية، وتم اعتقال بعض الشباب المشتبه فيهم أمنياً".
وسرد أبو عبدو أنه تم اعتقال شقيقين من إحدى الأسر التي رافقتهم خلال عملية النزوح، على مدخل غربي حلب من قبل الأمن السوري، بحجة أنهما مطلوبان للخدمة الإلزامية في جيش النظام.
وعندما حاولت والدتهما التدخّل ومنع سحبهما أجابها أحد العناصر بأنهما "سيخدمان البلاد لمحاربة الإرهابيين كونهما مطلوبين"، وبالطبع لم تتمكّن المرأة من مقاومتهم، وعن هذه اللحظة يقول أبو عبدو إن المرأة انهارت بكاء وهي تصيح بأنها لا تملك أي معيلٍ بسبب مقتل زوجها في القصف، ولا تدري من سيعيلها وبناتها الثلاث.
وطاول الاعتقال كباراً في السن ورجالاً غير مطلوبين للخدمة العسكرية في صفوف النظام، كما يؤكد ناشط حلبي رفض الكشف عن هويته، وذكر الناشط أن امرأة حاولت الاحتجاج على اعتقال زوجها ورد عليها أحد العسكريين قائلاً "ارجعي على مناطق الإرهابيين هنن يحموكم ويطعموكم"، على ما ينقل الناشط الذي شاهد حالات اعتقالات أمام عينه خلال انتظاره على طابور العبور من شرقي حلب إلى الجزء الغربي.
ووثق "العربي الجديد" هذه الروايات عبر شهادة أكثر من مواطن من حي المشارقة الواقع تحت سيطرة النظام (نقطة تماس بين مناطق النظام والمعارضة)، والقريب من معبر "كراج الحجز" الذي يسيطر عليه النظام، وأكد شهود عيان من العائلات النازحة وقوع عدّة حالات اعتقال واقتياد المعتقلين إلى أماكن احتجاز مجهولة، وبالمقابل فإن الحلبيين الذين نزحوا من شرقي حلب إلى المناطق الكردية بالأشرفية في شمال شرقي المدينة نجوا من الاعتقال.
ويؤكد مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، أن قوات النظام اختطفت نازحين هاربين من شرقي حلب إلى الجزء الغربي وأخفتهم بشكلٍ قسري من دون أي مذكرة اعتقال، مضيفاً: "لا نعرف أي شيءٍ عن مصيرهم".
وأضاف في إفادة لـ"العربي الجديد": "أصدرنا تقريراً مع بداية النزوح إلى غربي حلب حول مصير المدنيين الذين نزحوا إلى مناطق النظام، إضافةً إلى المدنيين الذين يعيشون بمناطق شرقي حلب، والتي سيطر عليها النظام، وأكدنا وقوع حالات اعتقال تعسّفية، إضافةً لحالات تصفية سريعة وإعدامات لمدنيين".
وحمل عبد الغني الأمم المتحدة مسؤولية مطالبة النظام بالكشف عن مصير المعتقلين والمختفين قسرياً، وعدد من اعتقلهم وسبب الاعتقال وعدد المفرج عنهم، قائلاً "الأمم المتحدة قصّرت كثيراً في هذا الأمر".
وكانت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية قد أكّدت أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أن قوات الأسد المدعومة بالمليشيات الأجنبية اعتقلت 500 شخص من الأحياء التي تمكنت من السيطرة عليها، في شرق حلب.
اعتراف أممي
في مطلع ديسمبر/كانون الأول الجاري، أكد وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ستفين أوبراين والمبعوث الأممي الخاص إلى سورية ستيفان دي ميستورا أن قوات الأسد اعتقلت نازحين من شرقيّ حلب، وقادتهم إلى مراكز اعتقال سرية.
وقال أوبراين، في كلمة ألقاها خلال جلسة طارئة عقدها مجلس الأمن الدولي إن "قوات الأسد تعتقل النازحين من شرقي مدينة حلب، وتقودهم إلى مراكز اعتقال سرية"، معبراً عن قلقه البالغ بشأن مصير المدنيين في شرق حلب، وهو ما أكده المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا قائلا: "إن قوات الأسد تعتقل من ينجح بالخروج من شرقي حلب".