تقع الشقّة في مبنى مؤلّف من طابقين، قرب مسجد "عبد الله بن مسعود" في الأحياء الداخلية للتبانة، حيث استمرّت الاشتباكات، طوال نهاية الأسبوع الماضي، بين مجموعة مسلّحة مقرّبة من "جبهة النصرة"، وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، والجيش اللبناني. وقد انهار المبنى بالكامل، بعد تعرّضه لقصفٍ بقذيفة، بحسب ما تفيد السيدة.
تضمّ المدرسة إلى جانب عائلة أم محمد 24 عائلة أخرى (حوالي المئتي شخص) نزحوا من منطقة التبانة، ويفيد المشرف على إغاثة النازحين في المدرسة، غسان راضي، عن وجود 300 عائلة نازحة، توزّعت على ثلاث مدارس رسمية في طرابلس والمينا. وسجّلت المدرسة زيارات لعدد من الجميعات الإغاثية التابعة للأحزاب السياسية، فوزّع ممرّضون من "مستوصف الحريري" بعض الأدوية على النازحين، في حين تولّت "كشافة الغد" (تيار المستقبل) توزيع المواد الإغاثية، كما حضر إلى المكان فريق من "اتحاد الجميعات الإغاثية" لتقديم الدعم النفسي للأطفال النازحين.
بقيت أم محمد صامتةً أمام "جيش الإغاثة" الذي حضر، قبل أن تشير بإصبعها إلى أرجل طفلتيها: "كل هؤلاء لم يحضروا حذاءً واحداً لطفلتي بعد أن خرجت بهما من منزلنا المحترق".
تحمل السيدة بشدة على الأفرقاء السياسيين في المدينة، "فالتبانة لم تكن بخير قبل الاشتباكات، لكنها باتت أسوأ من بعدها". يعمل أبو محمد موظفاً في شركة "لافاجيت" لجمع النفايات في النهار، وفي الليل يعمل سائق سيارة أجرة احترقت أيضاً في الاشتباكات.
جلست أم محمد في أحد الصفوف الفارغة في المدرسة، محاولةً جمع ركام أفكارها لتروي ما حدث في "يوم جهنم" كما وصفته. استيقظ أهالي التبانة بعيد الفجر، على صوت إطلاق نار كثيف، "ما لبث أن تحوّل لدوي قذائف، طالت شظاياها منزلي ومنازل الجيران، فهربنا أنا وأولادي الخمسة، إلى ملجأ مجاور ثم تبعنا زوجي، وبقينا فيه حتى مساء الجمعة، من دون ماء أو طعام، إلى أن أخبرنا المسلّحون بإمكانية مغادرة المنطقة في فترة الهدنة".
تؤكّد أم محمد أنّ المسلحين كانوا بالعشرات "على الأكثر"، وهم من أبناء منطقة التبانة. يكبح سعال مصطنع من أبو محمد، الزوجة عن متابعة وصف المسلّحين، فتحوّل حديثها إلى مساندة الجيش، والوقوف خلفه، رغم تأكيدها أنّ قذيفة أطلقت من مراكز الجيش، هي التي دمّرت منزلها.
لم تتجاوز أم محمد صدمة الحريق بعد، لكن قرار وزير التربية والتعليم العالي الياس بو صعب، إعادة فتح المدارس أمام التلاميذ، أنسى أم محمد رائحة بيتها المحترق، فهي تتساءل عن مصيرها ومصير عائلتها "فالهيئة العليا للإغاثة لم تزرنا بعد، أما ممثلة وزارة الشؤون الاجتماعية فقد وعدتنا خيراً، من دون تقديم أي شيء ملموس".
يسود القلق بين أغلب النازحين في المدرسة، لعدم وجود مسكن. تنتظر أم حسين، التي تسكن في شارع سورية، الفاصل بين باب التبانة وجبل محسن، ساعة العودة إلى منزلها المدمّر جزئياً. اعتادت على المعارك بين جبل محسن وباب التبانة، "لكن ما حدث الجمعة، فاق التصوّر إذ انهالت الصواريخ علينا، من البحر والجوّ، وأكملت رشاشات الدبابات، التصويب على منازلنا، كما انتشر المسلّحون الملثّمون بين المنازل، مرتدين الأحزمة الناسفة". تريد أم حسين العودة إلى منزلها بأي ثمن "لأنّ من غادر داره قلّ مقداره"، توافقها الرأي ابنتها مروة الحامل، لأنّ "الإقامة في المدرسة غير مريحة لي ولأطفالي".
يلعب أطفال مروة في ملعب المدرسة، إلى جانب العشرات من الأطفال الآخرين، ويعمل المشرفون على المدرسة للمحافظة على سلامتهم، نتيجة تصرّفاتهم العنيفة، إذ صادر المشرفون شفرة من أحد الأطفال، بعد أن هدّد رفاقه بالذبح، في حين تتردّد على مسامعك، مصطلحات "الجهاد" بين الأطفال الآخرين المتواجدين في الملعب.
التبانة منكوبة والأسواق تستأنف عملها
يجتاز زوّار مدينة طرابلس الكثير من الحواجز العسكرية التي تحيط بمنطقتي الاشتباك في التبانة، وفي منطقة الأسواق. تقودك الأبنية المطلية بالأزرق (شعار تيار المستقبل) في شارع سورية ـ الذي أعلن تيار المستقبل ترميمه في يوليو/حزيران الماضي، إلى منطقة التبانة.
هناك يحاول بائع القهوة تجاوز الدمار الكبير، بدراجته النارية للوصول إلى الأحياء الداخلية، وبيع القهوة للنازحين العائدين إلى منازلهم. يرتشف أبو عمر القهوة بيد، ويلوح بالأخرى أثناء إطلاق السباب للمسلحين "الذين ورطونا في معركة مع الجيش، أدّت إلى احتراق منازلنا وضياع أرزاقنا".
يستغرب أبو عمر السرعة التي ظهر فيها المسلّحون والسرعة التي اختفوا فيها كذلك، ويردها إلى "اللعبة السياسية التي لطالما دفعت التبانة ثمنها". يعود أبو عمر إلى منزله المتّشح بالسواد نتيجة نيران المعارك، حاملاً حقائب قليلة، فيها ملابس أطفاله وبعض الطعام، الذي اشتراه من الأسواق.
تقع منطقة الأسواق قرب التبانة، وقد تبدلت وظائفها بتبدّل المهن المنتشرة فيها، فتحوّل سوق العطارين إلى سوق خضرة، بعد أن انعدم وجود النحّاسين في السوق الذي يحمل اسمهم. وقد شهدت تلك المنطقة اشتباكات أقلّ ضراوة من تلك التي شهدتها التبانة، لكن آثارها الاقتصادية تبدو أكثر سوءاً.
يتحدّث عميد التجار في سوق العريض، أبو فايز عن "احتراق خمسة محلات ببضائعها،
إضافة إلى عدد من سيارات التجار". وقعت المعركة في السوق، بعد إقفال المحال التجارية أبوابها مساء الجمعة، واقتصرت أغلب الأضرار فيها على الواجهات الزجاجية، والتمديدات الكهربائية. يتوقّع التجار عودة الحركة التجارية خلال أيام، بعد انتهاء المظاهر العسكرية وإصلاح الأضرار.
إذن، بعد أن عاش الطرابلسيون عموماً وأهالي جبل محسن خصوصاً، تجربة المعارك الطائفية بين جبل محسن وباب التبانة، ها هم اليوم يعيشون نوعاً جديداً من المعارك، قدّم فيها الجيش اللبناني عرضاً لغزارة نيرانه، واستعرض المسلحون أحزمتهم الناسفة بين منازل المدنيين. أما الإنماء، وهو السلاح الأمضى لإنهاء بذور التطرّف في بيئة طرابلس الفقيرة، فيبدو بعيداً عن حسابات سياسيي المدينة.
------------
* ( الفيديو من إعداد حسين بيضون)