23 أكتوبر 2024
أميركا من ريغان إلى ترامب
يستبعد كثيرون ويستغربون أن يمنح الأميركيون ثقتهم لشخص مثل دونالد ترامب، لرئاسة أكبر قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية في العالم. وينطلقون، في حكمهم هذا، على أداء الرجل حتى الآن في حملته الانتخابية، وما أثاره ضده من انتقاداتٍ وامتعاضٍ، بسبب تصريحاته الصادمة، ومواقفه المتطرفة، ونياته الخطيرة التي تهدد السلم والأمن العالميين.
كل هذه الأمور حقيقية، ولا تحتاج إلى تأكيد، لأن صاحبها يكرّرها بلغة فجة ومستفزة، ومقززة أحياناً، أينما حلت وارتحلت حملته الانتخابية. وقد أكسبته تصريحاته هذه شعبية كبيرة، على الرغم من كل الخصوم والأعداء الذين ألّبهم ضده، وجعلته على مقربةٍ من أن ينال تزكية حزبه الجمهوري مرشحاً للرئاسة في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وينطلق الذين يستبعدون فوز ترامب بمنصب الرئاسة في الانتخابات المقبلة، في ذلك، من خلال الحكم على أدائه طوال الحملة الانتخابية، وما تخللها من مواقف وتصريحات وإعلان عن نياتٍ تجعل كثيرين يفزعون من نومهم، عندما يتخيلون شخصاً أهوج مثل ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأميركية.
لكن، مهلا. لا يجب التسرع في الحكم على نتائج الانتخابات الأميركية، ومن يعلنون ذلك ربما لم يقرأوا أو لم يسمعوا أو لم يعودوا يتذكّرون رونالد ريغان الذي تولى رئاسة أميركا من 1981 إلى 1989. فما بين الرجلين، أو بالأحرى شخصيتيهما، تقاطعاتٌ كثيرة، تجعل تصور وصول ترامب إلى سدة الحكم في أميركا أمراً غير مستحيل. فريغان وترامب ينتميان إلى حزب الجمهوريين، وينطلقان من عقيدة محافظة، تدعي الدفاع عن قيم العائلة الأميركية التقليدية. وكلاهما يمثل ما يرمز إليه أسلوب الحياة الأميركية: ريغان كان ممثلاً وسيماً ومشهوراً يرمز إلى القوة الأميركية. وترامب رجل أعمال غني ومشهور، يمثل نجاح الحلم الأميركي. كلاهما أيضا خبر مجال التمثيل، الأول كان ممثلا مشهوراً، والثاني كان شخصية تلفزيونية مشهورة في "برنامج الواقع" الذي اشتهر في العالم بـ "تلفزيون الواقع".
ومن يسمع اليوم تصريحات ترامب يصفه بـ "التخريف"، وننسى أن ريغان أخفى مرض "الزهايمر" الذي أصابه في سنوات حكمه الأخيرة، حسب ما كشف عنه بعد ذلك نجله رون ريغان في مذكراته "والدي في المائة". وساعدت في إخفاء مرض الرئيس عن الرأي العام زوجته، نانسي ريغان، التي كانت بمثابة الدرع الواقي له، وعُرف، فيما بعد، أنها كانت تستعين بعرّافٍ للاستشارة في تخطيط بعض تصرفات زوجها وقراراته.
ويتشابه ريغان وترامب في أن كلاً منهما ترشح للرئاسة، وهو في سن متقدمة. كان عمر ريغان حين انتخابه رئيساً 69 سنة و349 يوماً. وترامب سيبلغ السبعين يوم 14 يونيو/حزيران المقبل. لكن أهم ما يجعل وجه الشبه والتقارب بينهما قريبا، هو مواضيع حملتهما. فعلى الرغم من اختلاف السياقات التاريخية، إلا أن هناك ما يجمع بين حملتيهما. صنع الأول من معادة الشيوعية قضيته في كل سياساته وبرامجه، والثاني يستغل موضوع معاداة الإسلام لكسب مزيد من الشعبية لحملته. وإذا كان ريغان قد اختار موضوع محاربة الاتحاد السوفياتي هدفا لحملته وموضوعاً لسياسته الخارجية، فإن ترامب اختار لموضوع حملته، وربما غداً لسياسته الخارجية، في حالة انتخابه رئيساً، مهاجمة الإسلام والمسلمين.
وهنا، يكاد لا يوجد فرق كبير بين الأسلوبين، في الاستعمال السياسي للهجوم على "العدو"
المعلن، من استعمال تعابير فجة ومستفزة وتهجم مباشر. وصف ريغان "الاتحاد السوفييتي" إمبراطورية الشر، ودول "محور وارسو" آنذاك بـأنها محور الشر، وأطلق برنامج "حرب النجوم" لتدمير الكتلة الشرقية ومحوها من خارطة الكرة الأرضية في حالة اندلاع حرب عالمية ثالثة. أما ترامب فقد تبنى "خطاباً قومياً"، اتخذ من التطرف الإسلامي منصته المفضلة لمهاجمة الإسلام والمسلمين الذين طالب بمنعهم من دخول أميركا. وأعطى لحملته ضد الأقليات الأميركية طابعاً عنصرياً، واعداً الأميركيين بالعودة بهم إلى جذور بلادهم البيضاء المسيحية. كما أنه يعد ناخبيه بأن يبني حائطاً عازلاً بين بلاده والمكسيك، لوقف تدفق الهجرة غير الشرعية وكل أنواع التهريب. وكانت أول حروب ريغان بسط نفوذ بلاده على قناة بنما، واعتقال رئيسها في استعراض عسكري أقرب إلى أساليب الأفلام الأميركية الدعائية.
أما ما لا يختلف فيه الرجلان فهو تودّدهما لإسرائيل واللوبي اليهودي النافذ في أميركا. ومن أجل كسب تأييد هذا اللوبي، عمل ريغان كل ما في وسعه من أجل ذلك، فأعلن منظمة التحرير الفلسطينية منظمةً إرهابية، وأرسل قوات "المارينز" إلى بيروت لسحقها، وقصف بيت العقيد الليبي معمر القذافي في طرابلس، لأنه كان يرى فيه عدواً لأميركا، وفرض الحصار على ليبيا، بعد أن صنفها ضمن "قوى الشر". ومن أجل الغرض نفسه، ليس مستبعداً أن يُقدم ترامب على ما هو أخطر في حالة انتخابه رئيساً.
السياق العام واللحظة التاريخية هي التي تصنع الأحداث، وتضع أبطالها في الواجهة. صنعت ريغان لحظة تاريخية معينة، سمتها "الحرب الباردة"، سياقها هو ما جعل الأميركيين ينظرون إليه فيما بعد على أنه "بطل"، لأنه هزم "معسكر الشر"، وانتصر لقيم أميركا.
اليوم يضع سياق الحرب العالمية ضد ما يسمى "الإرهاب" ترامب في الواجهة، وتبدو الطريق شبه معبدة له، لترؤس الولايات المتحدة. وأكثر من ذلك، يبدو جزء كبير من الشعب الأميركي مستعداً لتقبل شخصيته لترؤس بلادهم، حسب ما تؤكده استطلاعاتٌ للرأي تمنحه تفوقاً بارزاً أمام منافسته الديمقراطية هيلاري كلنتون التي تجر وراءها "سوابق" عديدة غير مشجعة: فهي سيدة أميركا الأولى السابقة لولايتين متتاليتين في عهد زوجها بيل كلينتون، وهي مرشحة رئاسية سابقة لم يحالفها الحظ في حزبها، وهي وزيرة خارجية سابقة، تلاحقها أزمة مقتل السفير الأميركي في ليبيا وفضيحة تسريب بريدها الإلكتروني.
اللحظة التاريخية والسياقات السياسية هي التي صنعت من ممثل أفلام ويسترن رئيساً لأميركا، وحولته إلى واحد من أشهر أبطالها ورموزها اليوم، وربما قد يصنع السياق الحالي من دونالد ترامب رئيسا لأقوى دولة في العالم. لم لا؟ فكل شيء ممكن، في بلاد صناعة الأساطير الحديثة.
كل هذه الأمور حقيقية، ولا تحتاج إلى تأكيد، لأن صاحبها يكرّرها بلغة فجة ومستفزة، ومقززة أحياناً، أينما حلت وارتحلت حملته الانتخابية. وقد أكسبته تصريحاته هذه شعبية كبيرة، على الرغم من كل الخصوم والأعداء الذين ألّبهم ضده، وجعلته على مقربةٍ من أن ينال تزكية حزبه الجمهوري مرشحاً للرئاسة في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وينطلق الذين يستبعدون فوز ترامب بمنصب الرئاسة في الانتخابات المقبلة، في ذلك، من خلال الحكم على أدائه طوال الحملة الانتخابية، وما تخللها من مواقف وتصريحات وإعلان عن نياتٍ تجعل كثيرين يفزعون من نومهم، عندما يتخيلون شخصاً أهوج مثل ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأميركية.
لكن، مهلا. لا يجب التسرع في الحكم على نتائج الانتخابات الأميركية، ومن يعلنون ذلك ربما لم يقرأوا أو لم يسمعوا أو لم يعودوا يتذكّرون رونالد ريغان الذي تولى رئاسة أميركا من 1981 إلى 1989. فما بين الرجلين، أو بالأحرى شخصيتيهما، تقاطعاتٌ كثيرة، تجعل تصور وصول ترامب إلى سدة الحكم في أميركا أمراً غير مستحيل. فريغان وترامب ينتميان إلى حزب الجمهوريين، وينطلقان من عقيدة محافظة، تدعي الدفاع عن قيم العائلة الأميركية التقليدية. وكلاهما يمثل ما يرمز إليه أسلوب الحياة الأميركية: ريغان كان ممثلاً وسيماً ومشهوراً يرمز إلى القوة الأميركية. وترامب رجل أعمال غني ومشهور، يمثل نجاح الحلم الأميركي. كلاهما أيضا خبر مجال التمثيل، الأول كان ممثلا مشهوراً، والثاني كان شخصية تلفزيونية مشهورة في "برنامج الواقع" الذي اشتهر في العالم بـ "تلفزيون الواقع".
ومن يسمع اليوم تصريحات ترامب يصفه بـ "التخريف"، وننسى أن ريغان أخفى مرض "الزهايمر" الذي أصابه في سنوات حكمه الأخيرة، حسب ما كشف عنه بعد ذلك نجله رون ريغان في مذكراته "والدي في المائة". وساعدت في إخفاء مرض الرئيس عن الرأي العام زوجته، نانسي ريغان، التي كانت بمثابة الدرع الواقي له، وعُرف، فيما بعد، أنها كانت تستعين بعرّافٍ للاستشارة في تخطيط بعض تصرفات زوجها وقراراته.
ويتشابه ريغان وترامب في أن كلاً منهما ترشح للرئاسة، وهو في سن متقدمة. كان عمر ريغان حين انتخابه رئيساً 69 سنة و349 يوماً. وترامب سيبلغ السبعين يوم 14 يونيو/حزيران المقبل. لكن أهم ما يجعل وجه الشبه والتقارب بينهما قريبا، هو مواضيع حملتهما. فعلى الرغم من اختلاف السياقات التاريخية، إلا أن هناك ما يجمع بين حملتيهما. صنع الأول من معادة الشيوعية قضيته في كل سياساته وبرامجه، والثاني يستغل موضوع معاداة الإسلام لكسب مزيد من الشعبية لحملته. وإذا كان ريغان قد اختار موضوع محاربة الاتحاد السوفياتي هدفا لحملته وموضوعاً لسياسته الخارجية، فإن ترامب اختار لموضوع حملته، وربما غداً لسياسته الخارجية، في حالة انتخابه رئيساً، مهاجمة الإسلام والمسلمين.
وهنا، يكاد لا يوجد فرق كبير بين الأسلوبين، في الاستعمال السياسي للهجوم على "العدو"
أما ما لا يختلف فيه الرجلان فهو تودّدهما لإسرائيل واللوبي اليهودي النافذ في أميركا. ومن أجل كسب تأييد هذا اللوبي، عمل ريغان كل ما في وسعه من أجل ذلك، فأعلن منظمة التحرير الفلسطينية منظمةً إرهابية، وأرسل قوات "المارينز" إلى بيروت لسحقها، وقصف بيت العقيد الليبي معمر القذافي في طرابلس، لأنه كان يرى فيه عدواً لأميركا، وفرض الحصار على ليبيا، بعد أن صنفها ضمن "قوى الشر". ومن أجل الغرض نفسه، ليس مستبعداً أن يُقدم ترامب على ما هو أخطر في حالة انتخابه رئيساً.
السياق العام واللحظة التاريخية هي التي تصنع الأحداث، وتضع أبطالها في الواجهة. صنعت ريغان لحظة تاريخية معينة، سمتها "الحرب الباردة"، سياقها هو ما جعل الأميركيين ينظرون إليه فيما بعد على أنه "بطل"، لأنه هزم "معسكر الشر"، وانتصر لقيم أميركا.
اليوم يضع سياق الحرب العالمية ضد ما يسمى "الإرهاب" ترامب في الواجهة، وتبدو الطريق شبه معبدة له، لترؤس الولايات المتحدة. وأكثر من ذلك، يبدو جزء كبير من الشعب الأميركي مستعداً لتقبل شخصيته لترؤس بلادهم، حسب ما تؤكده استطلاعاتٌ للرأي تمنحه تفوقاً بارزاً أمام منافسته الديمقراطية هيلاري كلنتون التي تجر وراءها "سوابق" عديدة غير مشجعة: فهي سيدة أميركا الأولى السابقة لولايتين متتاليتين في عهد زوجها بيل كلينتون، وهي مرشحة رئاسية سابقة لم يحالفها الحظ في حزبها، وهي وزيرة خارجية سابقة، تلاحقها أزمة مقتل السفير الأميركي في ليبيا وفضيحة تسريب بريدها الإلكتروني.
اللحظة التاريخية والسياقات السياسية هي التي صنعت من ممثل أفلام ويسترن رئيساً لأميركا، وحولته إلى واحد من أشهر أبطالها ورموزها اليوم، وربما قد يصنع السياق الحالي من دونالد ترامب رئيسا لأقوى دولة في العالم. لم لا؟ فكل شيء ممكن، في بلاد صناعة الأساطير الحديثة.