09 نوفمبر 2024
أكراد إيران... نار تحت الرماد
توجّه أمين عام الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران، عبدالرحمن قاسملو، في 13 يوليو/ تموز 1989، إلى فيينا لإجراء مفاوضاتٍ متفق عليها مع ممثلين للنظام الإيراني، فكان أن أقدمت السلطات الإيرانية على اغتياله على الأرض النمساوية مع اثنين من مساعديه. يستعيد الأكراد في إيران هذه الذكرى الأليمة كل عام، وفاء لذكرى الرجل الذي سبق أن كافح ضد نظام الشاه، وأيد ثورة محمد مصدق على الشاه عام 1951 وتعرّض للاعتقال فتراتٍ طويلة، فكانت مكافأته في عهد الثورة الإقصاء ثم المطاردة فالاغتيال.
يحفل سجل أكراد إيران (تقديرات عددهم بين خمسة ملايين وسبعة ملايين نسمة من جملة الإيرانيين البالغ عددهم 75 مليون نسمة) بالقمع الدموي الذي تعرّضوا له منذ أن أعلنوا جمهورية مهاباد عام 1946، والتي دامت نحو عشرة أشهر، وحتى قيام الثورة الإيرانية عام 1979. ومنذ ذلك التاريخ، تعرّضوا لعمليات استئصالٍ ماديٍّ وسياسيٍّ جرياً على الأسلوب "الثوري" في سحق الأقليات والقوميات غير الفارسية. وعلى الرغم من أن قاسملو (كان محاضرا في جامعتي براغ والسوربون في اللغة والتاريخ الكرديين) تمت دعوته إلى لجنة إعداد الدستور الإيراني الجمهوري، إلا أن السلطات لم تلبث أن استبعدت مشاركته، فكان أن خرج الدستور بدون مشاركة المكوّن الكردي، مما أثار غضب أبناء كردستان إيران. ومنذ ذلك العهد، اتسمت علاقات النظام مع الأكراد بالعدائية المطلقة، شأنهم شأن العرب الأحواز، الا أن هذه العلاقات شهدت بعض انفراج في عهد الإصلاحي، محمد خاتمي، الذي قام في 1997 بتعيين أول محافظ كردي لمحافظة كردستان، هو عبدالله زادة، كما قام بتعيين أكراد في مناصب حكومية، وانتعشت، خلال تلك الفترة، الدعوات إلى ترميم العلاقات بين الجانبين، غير أن "الدولة العميقة" في إيران، ممثلة، على الخصوص، بالباسيج والحرس الثوري، عادت إلى النهج المفرط في تشدّده، نهج ازدراء حقوق الأقليات والعمل على إخضاعهم وتذويبهم. وفي العام 2005، قتلت قوات الأمن الناشط الكردي، شوان قدري، فاندلعت انتفاضة احتجاج عنيفة ضد مرتكبي الجريمة، دامت ستة أسابيع، وشملت مدن مهاباد وسنندج وبوكان وسقزبانة وسردشت وشنو. ولا يتوقف الأمر عند التصفيات الجسدية للناشطين، بل يمتد إلى تصفية قرى وبلدات كردية، وإزالتها عن الوجود، كما جرى لـ 270 قرية كردية في عهد الجمهورية الإسلامية.
وواقع الحال أن تجدّد المواجهات بين الجانبين، في الأسابيع القليلة الماضية، يثبت أن النار تحت الرماد لم تنطفئ أبداً، وأن سياسة القمع الشامل التي تنتهجها السلطات لم تطفئ جذوة المقاومة لدى الأكراد في إيران. علاوة على أن ظروف الإقليم حملت الحزب الرئيسي للحركة الوطنية الكردية، حزب العمال الكردستاني، للتحرّك أسوة بأكراد سورية والعراق وتركيا. وليس سراً أن كردستان العراق يحتضن ممثلين لأكراد إيران، كما لغيرهم من "الشعب الكردي". وقد أودت
مواجهات يونيو/ حزيران الماضي، كما أجمعت تقارير متطابقة، بما لا يقل عن عشرين من ضباط الحرس الثوري وجنوده على الحدود الايرانية العراقية. وقد تعرض إقليم كردستان العراق لتهديداتٍ صريحةٍ من الحرس الثوري. لا تتبنّى حكومة إقليم كردستان العراق هذه النشاطات، بل تحاول النأي عنها، غير أن أكراد إيران يثيرون حمية أشقائهم بالتساؤل عن مغزى حرمانهم من نيل حقوقهم هم وحدهم، دوناً عن أبناء شعبهم في العراق وسورية وتركيا. في هذا الصدد، يقول نائب أمين عام الحزب الكردستاني في إيران، حسن الشرفي: "لا نستطيع الوقوف مكتوفي الأيدي، من أجل مصالح كردستان العراق. ليس من العدل أن جزءاً من كردستان يضحّى بمصالحه من أجل أجزاء أخرى". وتسعى حكومة إقليم كردستان العراق إلى إقامة علاقات متوازنة مع كل من تركيا وإيران، في وقتٍ تحتفظ فيه هذه الحكومة بـ "شخصية قومية اعتبارية"، تمثل من ناحية المبدأ جميع الأكراد في سائر أماكن وجودهم.
ومن المفارقات أن إيران تقف إلى جانب الحركة الكردية في سورية التي تصطف مع النظام. كما تبدو إيران مرتاحةً للضغط الذي يمارسه أكراد تركيا على حكومة حزب العدالة والتنمية، لكنها، في الوقت نفسه، لا تعترف بحقوق ملايين الأكراد على أراضيها (وأراضيهم).
ويشكّل التحرك الكردي الجديد الذي توّج بإعلان إضراب عام يوم الأربعاء الماضي، 13 يوليو/ تموز الجاري، وقوبل كالعادة بقمع وحشي، تحدياً ليس فقط لطهران، بل للمعادلات القائمة في المنطقة، فما ينطبق على الجمهورية الإسلامية ينسحب على روسيا المغرمة بأكراد سورية (حزب صالح مسلم: الاتحاد الديمقراطي) وتركيا (حزب العمال). لكن موسكو لا تجد ما تقوله حيال حقوق أكراد إيران، ولا تلاحظ وجوداً لهم هناك. وينطبق الأمر نفسه على الولايات المتحدة التي تؤيد حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، وتقوم بتسليحه، من دون أدنى التفاتٍ، حتى الآن، إلى أكراد إيران الذين لا يجدون حليفاً لهم سوى شعبهم، فيما الحركات الكردية الأخرى في سورية وتركيا تدير الظهر لهم، لانشغالها بأجنداتٍ أخرى، وكذلك لارتباطها بداعميها. وذلك هو مأزق أكراد إيران، حيث تتحالف الجغرافيا والعزلة وحملة التطهير العرقي ضدهم، فيما يتعرّض ملاذ لهم في كردستان العراق لضغوط القوى النافذة المتحكّمة في القرار العراقي، والمرتبطة عضوياً بإيران، لمنع مدّ يد العون لهم، فضلاً عن ضغوط "داعش" في شمال العراق. وفي هذا الإطار، تحدّث مسؤولون إيرانيون عن تدريباتٍ عسكريةٍ لكوادر نسائية، تتبع حركة صقور كردستان قرب كركوك (بحجة التصدّي لداعش، حسب تعبير مسؤولين إيرانيين) علماً بأن إيران، وحرسها الثوري ومليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية، تستخدم الحجة نفسها منذ أمدٍ بعيد، حجة مكافحة داعش، لإبادة الشعب السوري. وكذلك تفعل روسيا المولعة بقصف المشافي والمدارس والأسواق الشعبية السورية، بحجة مناهضة داعش.
يُطالب أكراد إيران بالاعتراف بحقوقهم السياسية والثقافية أقلية قومية، بإصدار صحف وإنشاء إذاعاتٍ خاصة بهم، وتعليم اللغة الكردية والاعتراف بها، وأن تعمد السلطات إلى الحوار معهم في أجواء من الاحترام، وتعويضهم عما فقدوه من ضحايا ومن ممتلكات، وأن يتولى مسؤولون من بني جلدتهم إدارة المناطق الكردية، مع تمثيلهم في سائر المؤسسات الرسمية. لكن غطرسة القوة والشوفينية القومية واستضعاف أصحاب الحقوق تحمل السلطات على انتهاج التعامل العسكري وحده معهم، إذ تخضع المناطق الكردية لحالة طوارئ شبه دائمة. والراجح، في ضوء تطورات الأسابيع الأخيرة، أن الحركة الكردية في إيران مصممة على أن تجد لها موقعاً في المعادلات الإقليمية، بعد طول تغييب شاركت فيه، بالصمت والتجاهل، حركات كردية شقيقة.
يحفل سجل أكراد إيران (تقديرات عددهم بين خمسة ملايين وسبعة ملايين نسمة من جملة الإيرانيين البالغ عددهم 75 مليون نسمة) بالقمع الدموي الذي تعرّضوا له منذ أن أعلنوا جمهورية مهاباد عام 1946، والتي دامت نحو عشرة أشهر، وحتى قيام الثورة الإيرانية عام 1979. ومنذ ذلك التاريخ، تعرّضوا لعمليات استئصالٍ ماديٍّ وسياسيٍّ جرياً على الأسلوب "الثوري" في سحق الأقليات والقوميات غير الفارسية. وعلى الرغم من أن قاسملو (كان محاضرا في جامعتي براغ والسوربون في اللغة والتاريخ الكرديين) تمت دعوته إلى لجنة إعداد الدستور الإيراني الجمهوري، إلا أن السلطات لم تلبث أن استبعدت مشاركته، فكان أن خرج الدستور بدون مشاركة المكوّن الكردي، مما أثار غضب أبناء كردستان إيران. ومنذ ذلك العهد، اتسمت علاقات النظام مع الأكراد بالعدائية المطلقة، شأنهم شأن العرب الأحواز، الا أن هذه العلاقات شهدت بعض انفراج في عهد الإصلاحي، محمد خاتمي، الذي قام في 1997 بتعيين أول محافظ كردي لمحافظة كردستان، هو عبدالله زادة، كما قام بتعيين أكراد في مناصب حكومية، وانتعشت، خلال تلك الفترة، الدعوات إلى ترميم العلاقات بين الجانبين، غير أن "الدولة العميقة" في إيران، ممثلة، على الخصوص، بالباسيج والحرس الثوري، عادت إلى النهج المفرط في تشدّده، نهج ازدراء حقوق الأقليات والعمل على إخضاعهم وتذويبهم. وفي العام 2005، قتلت قوات الأمن الناشط الكردي، شوان قدري، فاندلعت انتفاضة احتجاج عنيفة ضد مرتكبي الجريمة، دامت ستة أسابيع، وشملت مدن مهاباد وسنندج وبوكان وسقزبانة وسردشت وشنو. ولا يتوقف الأمر عند التصفيات الجسدية للناشطين، بل يمتد إلى تصفية قرى وبلدات كردية، وإزالتها عن الوجود، كما جرى لـ 270 قرية كردية في عهد الجمهورية الإسلامية.
وواقع الحال أن تجدّد المواجهات بين الجانبين، في الأسابيع القليلة الماضية، يثبت أن النار تحت الرماد لم تنطفئ أبداً، وأن سياسة القمع الشامل التي تنتهجها السلطات لم تطفئ جذوة المقاومة لدى الأكراد في إيران. علاوة على أن ظروف الإقليم حملت الحزب الرئيسي للحركة الوطنية الكردية، حزب العمال الكردستاني، للتحرّك أسوة بأكراد سورية والعراق وتركيا. وليس سراً أن كردستان العراق يحتضن ممثلين لأكراد إيران، كما لغيرهم من "الشعب الكردي". وقد أودت
ومن المفارقات أن إيران تقف إلى جانب الحركة الكردية في سورية التي تصطف مع النظام. كما تبدو إيران مرتاحةً للضغط الذي يمارسه أكراد تركيا على حكومة حزب العدالة والتنمية، لكنها، في الوقت نفسه، لا تعترف بحقوق ملايين الأكراد على أراضيها (وأراضيهم).
ويشكّل التحرك الكردي الجديد الذي توّج بإعلان إضراب عام يوم الأربعاء الماضي، 13 يوليو/ تموز الجاري، وقوبل كالعادة بقمع وحشي، تحدياً ليس فقط لطهران، بل للمعادلات القائمة في المنطقة، فما ينطبق على الجمهورية الإسلامية ينسحب على روسيا المغرمة بأكراد سورية (حزب صالح مسلم: الاتحاد الديمقراطي) وتركيا (حزب العمال). لكن موسكو لا تجد ما تقوله حيال حقوق أكراد إيران، ولا تلاحظ وجوداً لهم هناك. وينطبق الأمر نفسه على الولايات المتحدة التي تؤيد حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، وتقوم بتسليحه، من دون أدنى التفاتٍ، حتى الآن، إلى أكراد إيران الذين لا يجدون حليفاً لهم سوى شعبهم، فيما الحركات الكردية الأخرى في سورية وتركيا تدير الظهر لهم، لانشغالها بأجنداتٍ أخرى، وكذلك لارتباطها بداعميها. وذلك هو مأزق أكراد إيران، حيث تتحالف الجغرافيا والعزلة وحملة التطهير العرقي ضدهم، فيما يتعرّض ملاذ لهم في كردستان العراق لضغوط القوى النافذة المتحكّمة في القرار العراقي، والمرتبطة عضوياً بإيران، لمنع مدّ يد العون لهم، فضلاً عن ضغوط "داعش" في شمال العراق. وفي هذا الإطار، تحدّث مسؤولون إيرانيون عن تدريباتٍ عسكريةٍ لكوادر نسائية، تتبع حركة صقور كردستان قرب كركوك (بحجة التصدّي لداعش، حسب تعبير مسؤولين إيرانيين) علماً بأن إيران، وحرسها الثوري ومليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية، تستخدم الحجة نفسها منذ أمدٍ بعيد، حجة مكافحة داعش، لإبادة الشعب السوري. وكذلك تفعل روسيا المولعة بقصف المشافي والمدارس والأسواق الشعبية السورية، بحجة مناهضة داعش.
يُطالب أكراد إيران بالاعتراف بحقوقهم السياسية والثقافية أقلية قومية، بإصدار صحف وإنشاء إذاعاتٍ خاصة بهم، وتعليم اللغة الكردية والاعتراف بها، وأن تعمد السلطات إلى الحوار معهم في أجواء من الاحترام، وتعويضهم عما فقدوه من ضحايا ومن ممتلكات، وأن يتولى مسؤولون من بني جلدتهم إدارة المناطق الكردية، مع تمثيلهم في سائر المؤسسات الرسمية. لكن غطرسة القوة والشوفينية القومية واستضعاف أصحاب الحقوق تحمل السلطات على انتهاج التعامل العسكري وحده معهم، إذ تخضع المناطق الكردية لحالة طوارئ شبه دائمة. والراجح، في ضوء تطورات الأسابيع الأخيرة، أن الحركة الكردية في إيران مصممة على أن تجد لها موقعاً في المعادلات الإقليمية، بعد طول تغييب شاركت فيه، بالصمت والتجاهل، حركات كردية شقيقة.