أكبر من انتفاضة.. وأقل من ثورة

18 يوليو 2018
+ الخط -
لعل التوصيف الأقرب إلى واقع الحال لما يحدث اليوم في العراق هو "أكبر من انتفاضة، وأقل من ثورة"، وقد تفاعلت "أقانيم" ثلاثة: البؤس والعتمة والعطش، كي تشكل هذا الإعصار التراجيدي الذي تفجر أولا في مدينة البصرة التي تحمل على أكتافها رائحة عراقة ومجد وثراء، والقابعة في أقصى جنوب العراق، وقد كتبت عليها الأقدار أن تتقاسم الحدود مع جارةٍ لدود، لا تضمر لها سوى الحقد الأعمى الموروث من بقايا تاريخٍ لم يعد مركونا على جنب. وقد امتد هذا الإعصار طولا وعرضا إلى مدن وقصبات عراقية أخرى، ظن الحاكمون أنها استكانت وتخاذلت، وأنها لن ترد على ظلم الزمان وغدره. البصرة التي تعوم على بحيراتٍ من النفط والغاز، أحوالها ملأى بالهموم التي لا تسر صديقا ولا تغيض عدوا. عمّالها بائسون لا تكاد تكفي أجورهم لتوفير الطعام اليومي لأسرهم. وشبابها خريجو جامعاتٍ ومدارس عاطلون يبحثون عن عمل يضمن مستقبلهم. وطلابها ينتظرون ساعة إطلاق النور، كي يراجعوا مفردات دروسهم. ونساؤها يبغين ماء صافيا، يطفئن به عطش أطفالهن. ومزارعوها زحف الجفاف إلى غلالهم التي انتظروها يوما بيوم، وقد أدركها الموت البطيء، فلم تعد تدر خيرها الموسمي المعتاد.. هؤلاء كلهم مهمشّون، كأن الأرض ليست أرضهم، والوطن ليس وطنهم، فكيف لهم أن لا يرفعوا راية العصيان بوجه ولاة أمورهم الذين يحرقون الأخضر واليابس معا، من أجل أن يشعلوا سيجارة واحدة.
هكذا عاش أهل البصرة سنواتٍ عجافا، منذ حل ثنائي الشر الأميركي - الإيراني في ديارهم، وقد اختزنوا غضبهم ونقمتهم طوال تلك السنوات، وها هم اليوم يفجرون انتفاضتهم على وقع شعارهم الثلاثي: "نريد ماء، نريد نورا، نريد عملا".
انتظر أهل السلطة أياما قبل أن يردّوا على أهل الانتفاضة، وجاء الرد جاهزا، رافقته ارتدادات هستيرية ملغومة، وقبضة وعود في الهواء، بفرص عمل ومشاريع خدمية، وسيارات حوضية توفر مياها للشرب، وزيادة في ساعات الكهرباء. كانت تلك الوعود مدعاةً للسخرية. طار 
رئيس الحكومة، حيدر العبادي، من بروكسل، حيث كان يحضر مؤتمرا دوليا، إلى البصرة، وابتسامة بلهاء تلتصق بشفاهه، ليتفاوض مع المنتفضين، ويبلغهم بوعوده التي أثارت السخرية. فات الأوان، ورفض المحتجون اللقاء به، قبل أن يحقق مطالبهم، وضيع الفرصة من يده. كان في وسعه أن يتجاوز تردّده، ويتخذ قرارا صعبا، أن يقتنص الفرصة المتاحة أمامه، وينحاز إلى الانتفاضة، لكنه لم يفعل. واصل عناده وتخبطه، وكي يحجب ما يحدث عن العالم، أغلق مواقع التواصل ثم قطع الإنترنت وشبكات الاتصالات، ثم عاد فأطلقها تحت الضغط الشعبي، قال واحد من أهل السلطة إن لا بأس في مفاوضة المنتفضين، لكن لا يحق لهم الحديث سوى عن الماء والكهرباء وفرص العمل.. عدا ذلك، يعد تجاوزا للخطوط الحمر، أطلق آخر مفهومه للخطوط الحمر، قال إنها تبدأ عند سلطة المرجعيات والأحزاب الحاكمة وراية "العملية السياسية" السوداء، ولأن المنتفضين اقتربوا من الخطوط الحمر، ورفعوا أصواتهم طلبا للحرية والكرامة، أمر أهل السلطة بإطلاق الرصاص عليهم، قتلوا عشرة على الأقل، وجرحوا أكثر من ثلاثمئة، يكون أهل السلطة بذلك قد أطلقوا الرصاص على أنفسهم وقرّروا الانتحار.
وهكذا كبرت الانتفاضة، لم تعد محصورةً بالأقانيم الثلاثة، الماء والكهرباء وفرص العمل، اتسع مداها، صارت المطالب تتعلق بالحرية والكرامة والوطن، إذ دعا عديدون على مواقع التواصل إلى تطوير الانتفاضة، لتأخذ صيغة عصيان مدني شامل، فيما رأى آخرون أن الحل يكمن في إسقاط "العملية السياسية" التي تقوم على المحاصصة الطائفية، وقيام حكومة إنقاذ تعمل على كتابة دستور جديد وإجراء انتخابات حرّة!
وكما عقد الخوف ألسنة سياسيين كانوا يظهرون معارضةً مصنوعةً للعملية السياسية نهارا، ويتحالفون مع رجالها ليلا، فقد عقد الخوف أيضا ألسنة مثقفين (هكذا يصنفون أنفسهم!) ولم يقولوا كلمةً واحدةً في دعم الانتفاضة ومساندتها، اكتفوا بالصمت إلى حين انجلاء الموقف، في حين أن مواطنين عاديين رفعوا أصواتهم عاليةً في التنديد بإجراءات السلطة، وفي تبني مطالب المنتفضين.
أخيرا، لا مجال للسؤال في من سيكون المنتصر في النهاية: أهل السلطة أم أهل الانتفاضة، لأن التاريخ يعلمنا أن السلطة الغاشمة تسقط تحت أقدام المواطنين العاديين، عندما تكبر الانتفاضة وتصير ثورة، فيما نرى هنا أن المسألة هي مسألة زمن، ليس أكثر.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"