في خضم أنباء تتحدث عن إعلان وشيك لوقف إطلاق نار بين الحكومة الأفغانية وحركة "طالبان"، وقد يكون مع بداية عيد الأضحى، بحسب تلميحات لمسؤولين في الحكومة الأفغانية ومصادر في "طالبان"، طرحت أحداث ميدانية كبيرة أسئلة حول هذه الأنباء، وجهود المصالحة التي دخلت أميركا على خطها أخيراً.
وقال الرئيس الأفغاني، أشرف غني، في خطاب أثناء زيارته إلى إقليم كابيسا القريب من العاصمة كابول قبل 3 أيام: "إننا سنصل إلى الحل، وحلحلة المعضلة، عبر الحوار شاء من شاء وأبى من أبى"، مطالباً أجهزة الدولة وزعماء القبائل بالتأهب لإدارة هذا الحدث الكبير، وهو وقف إطلاق النار الوشيك بين "طالبان" والحكومة الأفغانية، لافتاً إلى أنهم سيوزعون الحلوى على مسلحي "طالبان" لدى دخولهم إلى المدن. وقال مستشار الرئيس الأفغاني والأمين العام للمجلس الأعلى للمصالحة الأفغانية، أكرم خبلواك، في مؤتمر صحافي أخيراً، إن هناك تطورات كبيرة في ما يخص المصالحة مع "طالبان"، وسنقدم أخباراً سارة للشعب قريباً، مؤكداً أن هناك أطرافاً، في الداخل والخارج، تسعى إلى إفشال هذه الجهود، لكن الحكومة مصممة على المضي قدماً في العمل لحل المعضلة الأفغانية عبر الحوار.
على الضفة الأخرى، وزعت "طالبان" في شمال غربي البلاد وجنوبها، وتحديداً في إقليمي هرات وأورزجان، منشوراً، نقلت فيه عن "رئيس القضاة" في الحركة، المولوي عبد الحكيم، قوله إن "الشعب الأفغاني قد تعب من الحرب، وأنه آن الأوان أن نتصالح مع الحكومة الأفغانية ونضع حداً للحرب التي تقتل أبناء الأفغان بلا هوادة". في البداية كان الزعم السائد أن منشورات القيادي في الحركة قد تكون عملاً فردياً، لكن التزام "طالبان" الصمت يشي بموافقتها على هذا التصريح. ويعتبر هذا التطور تغيراً جذرياً في موقف الحركة، لا سيما وأنه كان يمكن لها أن تعلق على تصريح كبار "القضاة" فيها لو كانت تعارضه. من جهتها، رحبت الحكومة الأفغانية، على لسان أكثر من مسؤول فيها، بموقف "قاضي" الحركة. وقال الناطق باسم المجلس الأعلى للمصالحة الأفغانية، إحسان طاهري، إن "هذا هو التغيير الذي يتطلع إليه الشعب الأفغاني منذ أمد طويل، وهذا دليل على أن الشعب الأفغاني، بأطيافه المختلفة، لا يريد مواصلة الحرب، وأن الحرب ليست في صالحه، واستمرارها يخدم مصالح الأعداء". وتسببت كل تلك التطورات بإنعاش آمال الشعب الأفغاني بشأن المصالحة، وجعلته ينتظر العيد بفارغ الصبر.
لكن تلاحق الأحداث الميدانية يطرح أسئلة حول مصداقية هذه الأنباء والتكهنات. وشكل هجوم حركة "طالبان"، أول من أمس، على مدينة غزنة، ودخول مسلحيها إليها وإحراقهم معظم المباني الحكومية والعسكرية صدمة كبيرة للشعب ولكل الراغبين في المصالحة. ولا يزال الوضع في المدينة ملتبساً، مع تأكيد كل من الحكومة و"طالبان" السيطرة على غزنة، التي تضم 280 ألف نسمة. وقالت النائبة عن غزنة، شاه غل رضايي إن "حكومة كابول تؤكد أنها تسيطر على الوضع، لكن الاتصالات التي أجريناها مع المسؤولين الميدانيين تفيد بأن المعارك مستمرة في ضواحي المدينة". وأضافت: "للأسف قطعت طالبان الاتصالات بعد ظهر الجمعة، ولم يعد هناك كهرباء في المدينة أيضاً". من جهتها، أصدرت "طالبان" بيانات تؤكد فيها انتصارها. وقال الناطق باسمها، ذبيح الله مجاهد، إن "المجاهدين أسروا كتيبة بأكملها الليلة الماضية وصادروا أسلحة وذخائر وأربع شاحنات"، مؤكداً أن مقاتلي الحركة "يحمون مدينة غزنة ويمنعون تقدم العدو"، في إشارة إلى القوات الأفغانية. كما أعلن أن مقاتلي الحركة استولوا على نقاط تفتيش جديدة بما فيها نقطة "سجن غزنة، الذي تم تحرير كل سجنائه واقتيادهم إلى أماكن آمنة".
وسبق أن قامت حركة "طالبان" بتطهير جميع مناطق الشمال من تنظيم "داعش"، بعد السيطرة، الأسبوع الماضي، على آخر معاقله في إقليم جوزجان شمال أفغانستان، حيث استسلم مئات من عناصر التنظيم إلى الحكومة بعد معارك ضارية مع "طالبان" أدت إلى مقتل نحو 150 مسلحاً من الطرفين. وتجمع المئات من أنصار "طالبان" في شرق البلاد، وتحديداً في منطقة خوجياني الجبلية، على مرأى الحكومة، استعداداً لشن عملية كبيرة ضد "داعش". وإذا حدث هذا الأمر، فإن التنظيم سيخسر آخر معاقله في أفغانستان. وكانت صحيفة "صن" البريطانية ذكرت، قبل أيام، أن حركة "طالبان" طلبت من الولايات المتحدة الأميركية التعاون معها للقضاء على "داعش" في أفغانستان. ويمكن معرفة السبب الذي يقف خلف نية حركة "طالبان" القضاء على "داعش"، إذ إنه خصمها بالدرجة الأولى وهي تريد السيطرة على المناطق التي كان التنظيم سيطر عليها، وبالتالي توسيع رقعة نفوذها، لفرض شروطها على طاولة الحوار. لكن كيف يمكن تفسير الهجوم الذي شنته "طالبان" على غزنة، ودخولها المدينة بهذه السهولة، رغم وجود آلاف الجنود بداخلها، في حين يدور الحديث حول وقف إطلاق النار شامل بين الطرفين. هل السبب هو سعي "طالبان" إلى تقوية نفوذها على الأرض كمقدمة لطرح شروطها على طاولة الحوار، أم أن هناك سبباً آخر؟
يشار إلى أن هناك أطرافاً داخل الحكومة تعارض عودة "طالبان" إلى المسار السياسي. وعقد، في هذا الإطار، تحالف الأحزاب الجهادية والسياسية، المسمى بـ"التحالف الكبير لنجاة أفغانستان"، والذي يضم الجمعية الإسلامية بزعامة وزير الخارجية صلاح الدين رباني، وحزب وحدة بزعامة حاجي محقق، وحزب نائب الرئيس الجنرال عبد الرشيد دوستم، والقائد "الجهادي" عبد الرب رسول سياف، اجتماعاً مهماً في كابول، أول من أمس، أعلن بعده تشكيل هيئة جديدة للمصالحة، وعدم ارتياحه إلى الجهود التي تبذلها الحكومة. وشدد التحالف على أن "أي جهود للمصالحة لا بد وأن تجري على مرأى كل الشعب، وأن توافق عليها كل الأحزاب السياسية والجهادية". وقال مصدر في الرئاسة الأفغانية، لـ"العربي الجديد"، إن الرئيس الأفغاني عقد اجتماعات مهمة مع القادة السياسيين والجهاديين، منهم قيادات في هذا التحالف، وأن بعضهم قال لغني إنهم يريدون المصالحة ولا يريدون "طالبان"، ما أثار امتعاض الرئيس.
من هنا، ثمة زعم أن كل ما حدث في غزنة، وقبلها في جوزجان، وما سيحدث قريباً في الشرق ضد "داعش"، تقف خلفه أيادٍ تعمل ضد التحالف السياسي الجديد وكل من يعارض المصالحة مع "طالبان"، وهي تسعى إلى منح الحركة قوة قبل الإعلان عن أي توافق معها، لترغم تلك الأحزاب على قبول المصالحة. كما أن ارتفاع وتيرة الهجمات سيجعل الشعب يتطلع أكثر إلى المصالحة، وهو أمر سيضغط على الأحزاب التي تعارض المصالحة. والحكومة تحاول، من جهتها، إقناع "طالبان" بالمصالحة، وعلى الجانب الآخر إضعاف الأصوات المعادية للمصالحة، والتي تؤيدها وجوه معروفة كالرئيس الأفغاني السابق، حامد كرزاي، الذي أصدر مكتبه، أمس السبت، بياناً رحب فيه بقرار الأحزاب تشكيل هيئة جديدة للمصالحة من دون المجلس الأعلى للمصالحة الأفغانية.