وجاء هجوم "طالبان" على سجن غزنة، في منتصف سبتمبر/ أيلول الحالي، إذ تمكّنت خلاله من الإفراج عن 350 من مسلحيها، ليفتح نقاشاً واسعاً على الصعيدين الإعلامي والسياسي، مما دفع الحكومة الأفغانية إلى الاهتمام وأخذ القضية بعين الاعتبار.
لكن أكثر ما يقف عائقاً في وجه الحكومة لحلّ هذه القضية، هو أنّ معظم مساندي الجماعات المسلحة، هم أصحاب نفوذ قوي في الحكومة، وبعضهم أمراء حرب ممن يعتقدون أن الحفاظ على مصالحهم الشخصية يكمن في استمرار دوامة هذه الحرب. كما لا يستبعد بعض المراقبين دعم استخبارات دولية واستخبارات بعض دول المنطقة للشخصيات والجهات التي لهم صلة بالجماعات المسلحة. بالتالي، فإنّ القضاء عليهم وعلى نفوذهم من داخل أروقة الحكومة، هو من أصعب التحديات التي تواجهها حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني.
وكان الرئيس، أشرف غني، قد بدأ حكمه بإجراء تغييرات أساسية داخل الحكومة والمنظومة العسكرية بعد اكتمال الحقيبة الوزارية التي استغرقت نحو عشرة أشهر. حاول غني تعيين كفاءات علمية وأصحاب خبرة في المناصب السيادية، خصوصاً تلك التي تتعلق بالأمن والاقتصاد. هذه التغييرات، عكست ما كان رائجاً في حكومة كرزاي السابقة، إذ كانت معظم المناصب السيادية، سواء في الحكومة المركزية أو الحكومات المحلية، في يد أصحاب النفوذ وأمراء الحرب، وأولئك الذين ينسبون أنفسهم إلى الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفييتي.
اللافت، أنّ معظم أمراء الحرب في أفغانستان يحظون بدعم أميركي مباشر، فضلاً عن علاقتهم القوية باستخبارات بعض دول المنطقة. كما أنهم حافظوا، في الوقت عينه، على صلاتهم بـ"طالبان" والتنظيمات المسلحة الأخرى، لتأمين مصالحهم الشخصية، مثل تجارة المخدرات والأحجار الكريمة وغيرهما. من هنا، وعندما بدأت الحكومة في إجراء التغييرات، ليحل مكان أصحاب السلاح والقوة أهل الخبرة والكفاءة، شرع الأولون إلى استخدام الطرق كافة وممارسة جميع أنواع الضغط للبقاء في مناصبهم، بيد أن جميع محاولاتهم باءت بالفشل.
لكن أصحاب النفوذ لم ييأسوا في محاولاتهم، فعمدوا بعد فترة إلى سحب مسلحيهم (الذين يشكلون الجيش القبلي) من الخطوط الأمامية مع "طالبان"، في وقت كان الجيش الأفغاني في أمس الحاجة إلى دعمهم بعد الانسحاب الدولي، كما حصل في إقليم قندز قبل أشهر، إذ كاد يستولي مسلحو "الحركة" على الإقليم كاملاً، وكما حصل في إقليم بدخشان، إذ استولت "طالبان" على قاعدة عسكرية. ولم يكتف هؤلاء بسحب المسلحين وترك مساندة الجيش، بل أضحوا يساندون علناً عناصر "طالبان" والجماعات المسلحة في الوصول إلى أهدافها، وهو ما أشار إليه المتحدث باسم الجيش الأفغاني، الجنرال وزيري: "ندرك جيداً أنّ في داخل الحكومة أناساً يتعاملون مع طالبان والجماعات المسلحة، ويسعون إلى انهيار أجهزة الدولة، لكن الجيش يراقب تحركاتها عن كثب، وهو قادر على التعامل معها".
الأخطر من ذلك، هو ما قاله زعيم حزب "الدعوة"، القائد "الجهادي" السابق عبدرب الرسول سياف، إنّ "الجواسيس داخل الدولة ينتظرون الفرصة للإطاحة بالحكومة، بعدما فقدوا مناصبهم، وإني أحذر الحكومة والمؤسسات الأمنية من مؤامرة هؤلاء ضد الشعب والحكومة". كما طالب سياف، في كلمته بمناسبة الذكرى الرابعة لاغتيال الرئيس الأفغاني الأسبق، برهان الدين رباني، أخيراً، حكومة غني بأخذ خطوات فاعلة، وبسرعة، ضد من وصفهم بـ"أعداء الدولة داخل أروقة الحكومة". وسبق أن أكد وزير الداخلية، الجنرال نور الحق علومي، لدى استجوابه من البرلمان، بعدما تدهور الوضع الأمني أخيراً، أنّ "الأخطر على أمن الدولة، هو وجود دعم للمسلحين من داخل الحكومة، من شخصيات ومسؤولين يشغلون مناصب مهمة". ولم يذكر العلومي أي اسم، كما لم يقل ما إذا كانت الحكومة تنوي اتخاذ أي خطوة لإنهاء هذا الخطر.
اقرأ أيضاً أفغانستان تبدل استراتيجية محاربة المسلحين: تحريك علماء الدين والقبائل
سجن غزنة
حرّك هجوم "طالبان" على سجن غزنة في وسط أفغانستان، القضية من جديد. وبعدما ادعى أعضاء البرلمان والمجالس الإقليمية وبعض السياسيين، أنّ الهجوم جاء نتيجة التنسيق بين مسؤولين في الحكومة المحلية وحركة "طالبان"، سارعت الحكومة الأفغانية إلى تشكيل لجنة لإجراء التحقيقات اللازمة. وقبل أن تنهي اللجنة عملها، ادعت بعض وسائل إعلامية محلية استناداً إلى مصادر في الحكومة و"طالبان"، أنّ مدير السجن وبعض المسؤولين في الأمن كانوا متورطين في القضية.
وكتبت صحيفة "سرخط" المحلية بعد الهجوم بيومين، أنّ "طالبان" كانت على صلة مع كل من حاكم الإقليم السابق، موسى أكبر زاده، ومدير السجن، محمد لطيف حسن يار، وقد تمّ الهجوم مقابل حصولهما على مبالغ ضخمة من "طالبان". وتضيف الصحيفة، أنّ الحاكم السابق للإقليم اتفق مع "طالبان" للإفراج عن بعض معتقليها أثناء نقلهم إلى كابول. وكان من المفترض أن يدعي الرجل أنّ المعتقلين تعرّضوا لكمين المسلحين، وبالتالي تم الإفراج عنهم. إلّا أنّ قرار الحكومة بتغيير الحاكم أفشل الخطة. من هنا، لجأت "طالبان" إلى تنفيذ الهجوم على المعتقل، بدعم من داخل السجن، قبل أن يتم نقل معتقليها إلى كابول، وقبل أن يفقد الحاكم السابق نفوذه داخل السجن، بحسب الصحيفة.
وتأتي في تفصيل العملية، كما تدعي الصحيفة، أن مدير السجن نقل ذخيرة الأسلحة من مكانها السابق ووضعها في إحدى الحاويات الموجودة قرب البوابة الرئيسية قبل الهجوم بيوم واحد. وعندما هجم المسلحون على السجن، قاموا بإطلاق الصواريخ على الحاوية كخطوة أولى. كما أنّ أبواب الغرف التي كان بداخلها معتقلو "طالبان"، لم تكن مغلقة من الخلف، ليلة الهجوم. ومع انطلاق الهجوم، قاوم رجال الأمن بشراسة، لكن الذخيرة نفذت، وبالتالي قُتل معظمهم. إلّا أنّ مدير السجن ورفاقه لم يصابوا بأي أذى في الهجوم، ما دفع الحكومة إلى اعتقاله مع مسؤولين آخرين.
يذكر أن أعضاء الشورى الإقليمي ورموز قبائل المنطقة، اتهموا الحاكم السابق للإقليم موسى أكبر زاده، منذ سنوات، أنّه على صلة بـ"طالبان" وأنّ بعض الهجمات ضد المنشآت الحكومية والمؤسسات العسكرية تتم بالتنسيق معه وبدعم منه. كما يتهم بعضهم، أكبر زاده أنّه على صلة باستخبارات دول المنطقة، لذا فإن الرئيس الأفغاني السابق، حامد كرزاي، لم يكن يجرأ على تغييره من منصبه، على الرغم من أن جهاز الاستخبارات الأفغانية، أثار القضية مرات عدة.
لكن أكبر زاده، ليس المتهم الوحيد بالتعاون مع المسلحين، إذ سبق وأن ادعى بعض الناشطين، أنّ رئيس مجلس الشيوخ الأفغاني، فضل هادي مسلم يار، على صلة بـ"طالبان". وتداولت وسائل الإعلام الأفغانية أنباء مفادها، أنّ الاستخبارات الأفغانية اعتقلت عدداً من الانتحاريين في منزل شقيق رئيس مجلس الشيوخ في مدينة جلال آباد، شرقي البلاد، وتم استجواب رئيس مجلس الشيوخ في هذا الشأن.
المنظومة العسكرية و"طالبان"
لا يقتصر التعاون مع "طالبان" والجماعات المسلحة على كبار المسؤولين في الحكومة والأمن فقط، بل يمتد إلى الأفراد والقيادات الميدانية، إذ ثمة عشرات الهجمات التي نفّذتها "طالبان" على مدى الأعوام ضد الأهداف الحكومية بمساعدة عناصر الجيش والقيادات الميدانية في الجيوش القبلية المساندة لها. وعلى الرغم من أن وتيرة تلك الهجمات قد انخفضت بسبب الإجراءات التي اتبعتها المؤسسات العسكرية وجهاز الاستخبارات أخيراً، إلّا أنّها لا تزال موجودة، فقد قتل، السبت الماضي، ثمانية من جنود الجيش القبلي في مديرية أرغنداب في إقليم زابل، على يد أصدقائهم. وكانت الاستخبارات الأفغانية قد اعتقلت قائد الجيش القبلي في إقليم لوجرفرهاد، في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس/ آب الماضي، بتهمة علاقته الوطيدة بحركة "طالبان". وأشار مصدر في الحكومة الأفغانية، إلى أن الاستخبارات الأفغانية تراقب تحركات بعض المسؤولين الذين يخشى أن تكون لهم علاقات بـ"طالبان" أو بأي جماعة مسلحة أخرى.
يؤكد بعض المراقبين للتحركات الحاصلة على الساحة الأفغانية، أنّه لا يمكن لـ"طالبان" الوصول إلى أهدافها، إلّا بتعاون من الداخل، وأنّ القضاء على المتعاونين مع "الحركة" والمساندين للجماعات المسلحة، خصوصاً كبار المسؤولين في الحكومة والأمن، من أشدّ وأصعب المهام في وجه الحكومة، لا سيما وأن بعضهم يحظون بدعم القوات الأميركية ودعم بعض دول المنطقة. لكن بقاء الحكومة بات مرهوناً بالقضاء على نفوذ "طالبان" داخل الحكومة، وفقاً للمراقبين وبعض السياسيين الأفغان.
اقرأ أيضاً 14 عاماً على حرب أفغانستان: عودة الأميركيين بذريعة "داعش"