لا تُبنى الدراسات الاقتصادية على التوقعات، وربما لا تصدر البيانات والإحصاءات وفق التخمين، إلا في "سورية الأسد"، إذ لا رقم أو نسبة محددين، عن أي مؤشر اقتصادي، كما لا مركز معنيّاً بالأساس بإصدار أي رقم أو نسبة أو حتى مؤشر حديث، يمكن الركون إليه بدراسة أو بحث وتحليل .
والحال لا يتعلق بالثورة أو ما أتت عليه الحرب، من تهديم مؤسسات ومراكز إحصائية وقتل أو هروب المتخصصين، بل الحكاية بسورية قديمة قدم الممانعة، ولا أجزم يقيناً بأن لتعدد الأرقام والنسب هدفاً قوميّاً أو ضرورة يقتضيها "الصمود والتصدي".
السوريون لم يعرفوا حجم إنتاجهم من النفط، وفق ما أعلنته الحكومة طبعاً، إلا مطلع الألفية، وكان إنتاج النفط وتصديره من الأسرار الوطنية التي لا يجرؤ باحث أو صحافي على التطرق لها، كما كان يتندر السوريون، بتعدد نسبة النمو التي كانت تتفاوت قبل الثورة، على حسب الشخص، وليس الجهة التي تصدرها، فرئيس الحكومة يقول نسبة ونائبه الاقتصادي يدلي بأخرى، ليناقض وزير الاقتصاد كلتا النسبتين.
قصارى القول: بالأمس، وبعد تأخر فقط لعام وتسعة أشهر، صدر تقرير التجارة الزراعية لعام 2015 عن المركز الوطني للسياسات الزراعية، وقد برر التأخير على اعتبارات وأعذار لها علاقة بالحرب والنضال واستهداف العالم لسورية الأسد، ولكن ما هو سبب غياب أرقام ومؤشرات أعوام 2013 و2014 و2015 و2016، بل والنصف الأول من العام الجاري، إذ أتت البيانات والأرقام الإحصائية، عن أعوام 2011 و2012، رغم انقضاء الربع الثالث من عام 2017؟
وربما تكون هنالك أعذار لمؤسسة صغيرة أو باحث أو حتى مركز خارجي، إن أغفل نسبة أو رقماً يستدل من خلاله القارئ أو الباحث، عن حال الزراعة ببلد توصف بالزراعية وهذا القطاع ملاذ ومصدر عمل ورزق معظم أهلها.
أما أن يصدر التقرير عن مؤسسة حكومية وتتبع لوزارة الزراعة، دون الاستعانة حتى بأرقام الزراعة والحصاد والتصدير والاستيراد التي تصدرها الوزارة ذاتها، أو أن يبذل باحثو المركز بعض الجهد للاستعانة ببيانات وزارة الخارجية، وإن هي الأخرى لم تجدد أرقامها منذ عام...ولكن يبقى الأمر أقل وطأة من إيراد بيانات عام 2012 وعام 2017 شارف على النهاية.
وأيضاً، لو أراد أي باحث أو جهة دراسة معرفة واقع الميزان التجاري الزراعي السوري، بواقع تحول الإنتاج من الوفرة للندرة ومد يد الاستيراد والمقايضة لروسيا، حتى لجهة القمح الذي كانت تصدر سورية أكثر من مليون طن منه قبل عام 2011، وبالمقابل تصدير احتياجات الأسواق الزراعية للخارج لتحصيل بعض الأموال بواقع تراجع موارد الخزينة، فمن أين لهؤلاء الوقوف على أرقام ونسب موثوقة، سوى المركز الحكومي والمتخصص؟
وكيف لصانع القرار الزراعي بحكومة الأسد، بناء خطط العام الجاري والعام المقبل، دون الاستناد إلى أرقام وبيانات، عن حجم الإنتاج والاستهلاك والتصدير وتكاليف الإنتاج؟
أيمكن الاستناد إلى أرقام عام 2012 بعد تبدل الأحوال واتساع الرقعة الزراعية التي استعادها نظام الأسد، بعد التحوّل على الأرض، وخذلان الثورة والسوريين، وانحسار المعارضة لرقعة زراعية صغيرة لا تتجاوز محافظة إدلب وبعض ريفي حلب وحماة؟
نهاية القول: أتينا كمثال، على إصدار المركز الوطني للسياسات الزراعية لأنه حديث ومثير للاستغراب، بيد أن هذا المثال يمكن سحبه على المراكز الأخرى، وفي مقدمتها المكتب المركزي للإحصاء بدمشق، والذي لا يصدر أي نسبة ورقم ومؤشر، إلا بعد انقضاء عام أو أكثر، وهذه العادة متوارثة حتى قبل قيام الثورة.
ولعل الخطر بالأمر على نحو ما نحسب، أن سورية مقبلة على صفقة دولية كبرى، ضمن ما يسمى إعادة الإعمار، وقد قرأنا وسمعنا عن همة ورغبة دول كثيرة للمساهمة بدورها باقتسام كعكة الخراب، التي ستضمن بقاء بشار الأسد على كرسي الوراثة وإن لحين، فمصر أعلنت عن استعدادها وكذا لبنان، فضلاً عن توزيع الحصص الكبرى بطاعات الطاقة، لموسكو وطهران وبكين، إلا أن السؤال هنا، كيف يمكن أن تأتي شركة أو دولة لتنفيذ مشاريع، بدولة لا تعلن بصدق عن أرقامها وإحصاءاتها.
أو ليس في تعدد أرقام خسائر الحرب على سورية، التي تبدأ من 150 مليار دولار وتتعدى 275 ملياراً، دليلاً وموضع تشكيك بآن، فإن كانت أرقام خسائر الحرب تتراوح بفارق الضعف، وليس بنسب هامشية يمكن تجاوزها، فكم هي أرقام إعادة الإعمار التي سيتم إسنادها لشركاء الأسد بالحرب، أي تعهيد الإعمار لمن هدّم؟ ...
وربما بذلك هو الجواب وسر عدم الإفصاح عن الأرقام بـ"سورية الأسد"، منذ الإنتاج الزراعي وصولاً لإعمار البلد.