وبدأت جولة جديدة من محادثات أستانة، أمس الثلاثاء، بمن حضر، في ظل غياب وفد المعارضة السورية المسلحة التي وضعت "محددات" قبل المضي قدماً في مسار أستانة التفاوضي في ما يتعلق بالجوانب العسكرية. وحضرت جميع الأطراف الأخرى، أي وفد النظام وممثلو تركيا وروسيا وإيران، الاجتماعات التي كان من المفترض أن تتناول مسائل تتعلق باتفاقات حول المناطق المشاركة في الهدنة، وإنشاء فريق عمل بشأن تبادل المعلومات الخاصة بالأسرى، وفق ما أعلنه وزير الخارجية الكازاخستاني، خيرت عبد الرحمانوف. وأشار عبد الرحمانوف إلى أن المباحثات تتناول مسألة إزالة الألغام في المنشآت الإنسانية، بما في ذلك المواقع الخاضعة لحماية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، إضافة إلى "المسائل العسكرية البحتة بمشاركة الخبراء في هذا المجال".
محاولة التنصل من المسؤولية
وفيما أقرّ المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أن المحادثات في كازاخستان "معقدة للغاية" وأنه يوجد خلافات بين الدول المشاركة، قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إن وزارة الدفاع الروسية تتواصل مع قيادات المعارضة السورية التي قاطعت الجولة الجديدة من أستانة، مشيراً إلى أن الأسباب التي بررت بها الفصائل موقفها ""غير مُقنعة".
ولفت لافروف، خلال مؤتمر صحافي مع نظيره الكونغولي، جون كلود غاكوس، إلى أنه "دائماً ما يحدث تعطّل، (لكن) الأهم هو عدم وقوع تلك الانتهاكات بكثرة (على غرار ما كان يحدث) قبل توقيع اتفاق وقف إطلاق النار ذي الصلة في نهاية ديسمبر/كانون الأول. كما لفت إلى أنه "يجري العمل على إنشاء آلية للرد على الانتهاكات."
من جهته، حاول رئيس وفد النظام إلى أستانة، بشار الجعفري، التنصل من مسؤوليه النظام عن إفشال اتفاق وقف إطلاق النار والتسبب في مقاطعة فصائل المعارضة للاجتماع، بالقول إن تركيا، وهي من بين الضامنين الثلاثة للمحادثات أخلت بالتزاماتها. وأضاف "هذا يعني أن تركيا يجب أن تتحمل مسؤولية عدم حضور أو مشاركة الجماعات المسلحة".
ومن المتوقع أن تلقي التطورات الميدانية والإنسانية الأخيرة في سورية بظلالها على "أستانة3"، في ظل تباين واضح بين الثلاثي الضامن لاتفاق وقف إطلاق النار أي تركيا، وروسيا، وإيران. وأفشل الصمت الروسي عن الخروقات الجوهرية من قبل قوات النظام لاتفاق وقف إطلاق النار الجهود التي كانت تبذل من أجل تهيئة ظروف أفضل لمفاوضات جنيف. وشكل الموقف الروسي، بالنسبة للمعارضة، دليلاً إضافياً على عدم جدية الروس في الضغط على النظام للقيام بإجراءات "حسن نيّة" من قبيل إطلاق سراح معتقلين، أو فك الحصار عن المناطق المحاصرة. والظاهر أن زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى روسيا منذ أيام عدة لم تدفع باتجاه تعزيز الثقة بين البلدين حيال الملف السوري، وهذا ما يفسر عدم ممارسة الأتراك الضغط على الفصائل العسكرية المعارضة للذهاب إلى أستانة.
وكان وفد قوى الثورة العسكري قد وضع محددات للانخراط في مسار أستانة الذي كان مؤملاً منه وضع حد لخروقات النظام وحلفائه لاتفاق أنقرة لوقف إطلاق النار، الذي دخل حيزّ التنفيذ نهاية العام الفائت. وتدعو المعارضة السورية إلى تطبيق قرارات واتفاقيات دولية تنصّ صراحة على وقف إطلاق النار في عموم سورية، وإطلاق سراح المعتقلين، وفك الحصار عن المناطق المحاصرة، وتسهيل دخول مساعدات إنسانية للسوريين، وإيقاف عمليات تهجير واسعة النطاق تتم تحت رعاية روسيا.
وفي السياق نفسه، أكد المستشار السياسي لوفد قوى الثورة السورية العسكري، يحيى العريضي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن أي مخرجات من "أستانة 3" لا تتضمن تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، وإيقاف عمليات التهجير بحق السوريين، وإدخال مساعدات للمحاصرين، وإطلاق سراح معتقلين "هي مجرد كذبة جديدة مكتوبة على الورق للاستهلاك الإعلامي الخبيث"، وفق قوله. وأشار العريضي في تصريح لـ"العربي الجديد" الى أن وفد قوى الثورة العسكري رفض الذهاب إلى مؤتمر "أستانة 3" حتى "لا نتحول إلى شهود زور على المذبحة التي تُرتكب بحق السوريين"، موضحاً أن بنود الجانب الإنساني في القرار 2254، وبنود اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في أنقرة واجبة التطبيق. وشدد على أن "تجويع الناس وحصارهم عبارة عن جرائم ضد الإنسانية".
وأكد العريضي أن مساري أستانة وجنيف مرتبطان بشكل عضوي في بُعدهما الاستراتيجي، مشيراً إلى أن إجراء الانتقال السياسي والانتخابات لا يمكن من دون إنهاء إرهاب الدولة الذي يمارسه النظام. وأوضح العريضي أن تركيا ضامن لاتفاق وقف إطلاق النار وليست لسان حال المعارضة أو متحدثة باسمها. وأضاف "نحن أصحاب القضية". كما أشار العريضي إلى أن روسيا لم تقم بدورها كضامن لاتفاق وقف النار. ووصف روسيا بأنها "ضامن لإرهاب الدولة الذي يمارسه نظام الأسد، وناطقة باسمه".
من جهته، أكد عضو وفد قوى الثورة العسكري، النقيب سعيد نقرش، أن أي مخرجات قد تصدر عن "أستانة 3" لا تعني المعارضة السورية، مضيفاً في حديث مع "العربي الجديد": "لسنا شركاء في هذه المخرجات". كما أكد أن "مقاطعة المفاوضات جاءت من أجل إحداث تغيير في الوضع القائم". ولفت إلى أن "المقاطعة قرار وطني بامتياز يبرئ الفصائل من اتهامات باطلة، ويأتي انطلاقاً من المسؤولية، والحرص على أهداف الثورة، والتضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب السوري"، وفق تعبيره.
ولا تخفي الفصائل السورية المسلحة خيبة أمل تجاه مسار أستانة، الذي تحوّل إلى ما يشبه "الخديعة" الروسية لهذه الفصائل، من أجل منح قوات النظام ومليشيات إيران غطاء لقضم المزيد من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة بحجة وجود مقاتلين من جبهة فتح الشام فيها.
وخسرت المعارضة منذ سريان اتفاق وقف إطلاق النار مواقعها في منطقة وادي بردى شمال غربي دمشق. كما خسرت آخر معقل لها في مدينة حمص وهو حي الوعر. وتدافع حالياً عن حيي برزة وتشرين في خاصرة دمشق الشمالية الشرقية، وعن غوطة دمشق الشرقية. وكان من الواضح أن الخطة الروسية تتضمن تحقيق مهادنة بين النظام والمعارضة المسلحة، لتوجيه اهتمام الأخيرة لمقاتلة جبهة فتح الشام، وتنظيم "داعش" مما يعني وضع النظام والمعارضة في خندق واحد، وهو ما ترفضه المعارضة بالمطلق. وتعتبر المعارضة أن النظام أكبر ممارس للإرهاب في سورية، وتؤكد أن هناك نوعاً من "شراكة الدم" بينه وبين تنظيم "داعش" تتجلى في التعاون الاقتصادي، والتنسيق العسكري. وتسوق المعارضة أدلة على هذا التنسيق من قبيل استشراس التنظيم في قتال الجيش السوري الحر، في مقابل انسحابه من دون قتال أمام قوات النظام، كما حدث في تدمر، وريف حلب الشرقي أخيراً.
وفي السياق نفسه، أكد الائتلاف الوطني السوري، في بيان أصدره أمس الثلاثاء، أن تنظيم "داعش" "باع مخزون الحبوب لديه إلى سلطة بشار الأسد، ما يؤكد استمرار العلاقة بين الطرفين، ويشكل انتهاكاً لقرارات مجلس الأمن التي تقضي بتجفيف منابع تمويل الإرهاب".
وقال عضو الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني السوري، ياسر الفرحان، إن "العلاقات التجارية لا تزال مستمرة بين الطرفين، الأمر الذي يضع مسؤوليات كبيرة على مجلس الأمن لتنفيذ قراراته، في ما يتعلق بملاحقة ممولي الإرهاب".
في موازاة ذلك، يبدو اهتمام المعارضة السورية منصباً أكثر على مسار جنيف الذي يتمتع بمظلة أممية، ويعتمد مرجعيات واضحة لا يمكن تغييرها بسهولة. ومن المقرر أن تعقد الهيئة العليا للمفاوضات اجتماعات في السابع عشر والثامن عشر من شهر مارس/آذار في مقرها بالعاصمة السعودية الرياض. وذكرت مصادر في الهيئة لـ"العربي الجديد" أن تقييماً عالي المستوى لنتائج الجولة الأولى من "جنيف4" سيتم في الاجتماعات، مشيرة الى أن المساعي لضم منصتي "القاهرة"، و"موسكو" إلى وفد المعارضة المفاوض في جنيف "وصلت إلى طريق مسدود". ووفقاً للمصادر نفسها، فإن كلاًّ من رئيس منصة موسكو قدري جميل، وجهاد مقدسي من منصة القاهرة، يريدان وجوداً مميزاً في الوفد، وهذا ما نرفضه بالمطلق كونهما أقرب للنظام منهما للمعارضة. ولفتت المصادر نفسها إلى أن "عموم السوريين يرفضون وجود شخصيات متماهية بالمطلق مع المشروع الروسي في سورية، ضمن الوفد المفاوض في جنيف". من جهته، قال المنسق العام "لهيئة التنسيق الوطنية"، أحد المكونات الرئيسية "للهيئة العليا للمفاوضات"، حسن عبد العظيم، في حديث مع "العربي الجديد" إن "البند الأول على جدول أعمال الجولة المقبلة من جنيف4، هو الانتقال السياسي وهيئة الحكم".
وحول اشتراط النظام أن يكون هناك وفد واحد للمعارضة ليتفاوض معه، قال عبد العظيم: "لا علاقة للنظام بموضوع وفد المعارضة، وهو يحاول التذرع بالوفد للتهرب من البحث في الانتقال السياسي وتشكيل هيئة الحكم من ناحية، ولمحاولة إدخال أطراف موالية في وفد المعارضة للقول بوجود معارضات متعددة مختلفة من ناحية أخرى".
يذكر أن المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، قد حدد الثالث والعشرين من الشهر الحالي موعداً لجولة ثانية من جنيف4، لبدء التفاوض الفعلي حول ما بات يُعرف بـ"السلال الأربع"، وهي: "الانتقال السياسي، والدستور، والانتخابات، ومكافحة الإرهاب وبناء السلام". ومن المتوقع أن تشهد الجولة المقبلة، تجاذباً كبيراً في ظل إصرار المعارضة على إنجاز التفاوض على الانتقال السياسي القائم على تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات من دون الأسد، فيما يصر وفد النظام على مناقشة السلال بالتوازي مع رفض تشكيل هيئة حكم، وتشكيل ما يُسمّيه بـ"حكومة وحدة وطنية" مع بقاء الأسد في السلطة، وهو ما يخالف بيان جنيف1، والمدعوم بقرار مجلس الأمن 2118 الذي يرفضه النظام.