تثير أصوات الطلقات النارية عند منتصف الليل، والتي تسمع من الغرفة في فندق في شارع التسعين بعدن، الفزع، في الوقت الذي ينقطع فيه التيار الكهربائي فجأة عن الفندق، ليتضح لاحقاً أنها أطلقت كطقس مستحدث لإشهار الفرحة في حفل زفاف لا أكثر، وأن عدن قد اعتادت مثل هذه السلوكيات أخيراً، مثلما أصبح بيع الأسلحة في بعض شوارعها أمراً عادياً هو الآخر. أما التيار الكهربائي فيأتي لمدة ساعتين لينقطع خمس ساعات، وقد تزامن انقطاعه مع مرور موكب زفاف.
باعة الوقود في عبوات بلاستيكية ينتشرون على جانبي الطريق وأنت قادم من لحج والضالع باتجاه عدن، في مشهد يذكّر بصنعاء قبل عام ونصف العام، فهناك أزمة وقود في المناطق الخاضعة للشرعية بعد مرور عامين على إخراج قوات الحوثيين وعلي عبد الله صالح منها، إلا أن أسعار الوقود في عدن لا زالت أقل مقارنة بصنعاء. وعند مرورك بشوارع المنصورة بعدن، قد ترى مجاميع ترتدي الزي المدني تحيط بأحد أسوار مبنى هناك، ليتبين أنهم من القوات الأمنية ينتظرون صرف مرتباتهم الشهرية. وكان هؤلاء قطعوا بعض شوارع المدينة للمطالبة برواتبهم، وسبق أن استهدف زملاء لهم بعمليتين انتحاريتين العام الماضي، سقط فيهما عشرات القتلى والجرحى.
ولا تزال آثار المعارك، التي اندلعت بين مارس/ آذار ويوليو/ تموز 2015، بين قوات الحوثي وصالح من جهة وقوات المقاومة الموالية للرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، تظهر على المباني في المنصورة والشيخ عثمان ودار سعد وخور مكسر. ورغم تكفل الكويت بتمويل عمليات إعادة الإعمار في المدينة، إلا أن تلك العمليات لم تنطلق بعد نتيجة عدم استقرار السلطات المحلية في المدينة من جهة، وعمل هذه السلطات وفقاً لرغبات وسياسات بعض دول التحالف العربي، بقيادة السعودية، خصوصاً الإمارات التي تمتعت بنفوذ غير مسبوق خلال فترة محافظ عدن السابق، عيدروس الزبيدي، الذي لا يزال يرفض تسليم مبنى المحافظة للمحافظ الجديد حتى الآن، بعد مرور أربعة أشهر على قرار هادي بإزاحته من منصبه. وفي مديرية دار سعد تظهر دبابة مدمرة على تقاطع رئيسي. وقال ماجد إنها "أول دبابة حوثية قمنا بتدميرها" خلال معارك 2015. وقد استفز عند سؤاله عمن يقصد بـ"قمنا"، موضحاً "نحن المقاومة الجنوبية الذين قاتلنا يومها بقوة وأخرجنا الحوثيين من الجنوب، وليس المقاولة التي تبحث اليوم عن مصالحها فقط".
وقد وصلت أخيراً قوات سعودية لتحل محل القوات الإماراتية في مطار عدن، وذلك بعد زيارة هادي للملك السعودي، سلمان، في مقر إجازته في المغرب، وبعد مغادرة رئيس الحكومة، أحمد عبيد بن دغر، ومعه محافظ عدن، عبد العزيز المفلحي، إلى السعودية. ولا يزال المفلحي يمارس أعماله من خارج مقر المحافظة، إذ إن الإمارات لم تكن راضية عن تعيينه كبديل لرجلها المقرب عيدروس الزبيدي. وقد كشف خطاب للمفلحي، قبل مغادرته عدن إلى الرياض أخيراً، عدم رضاه عن طبيعة العلاقة مع دول التحالف، وهو تصرف لا يصدر عادة عن قيادات الشرعية، رغم تذمرها الواضح من هيمنة الإمارات على الجنوب وعدم احترامها لقرارات هادي.
وإذا حاولت اكتشاف إنجازات التحالف، والإمارات تحديداً، في عدن والجنوب عموماً خلال عامين، فأنت لن تجد سوى المتاريس الترابية والخرسانية التي تحمي نقاط التفتيش على الطريق السريع بين عدن وحضرموت، والتي تشرف عليها قوات محلية تتبع هيكلين مختلفين استحدثتهما الإمارات وتبنت تدريب أفرادهما، هما "الحزام الأمني" بعدن ومحيطها، و"قوات النخبة الشبوانية" في شبوة و"النخبة الحضرمية" في حضرموت. ولن تجد إجابة للتساؤل عن سبب اختيار تسميات مختلفة لهذه الكيانات بين عدن من جهة (الحزام الأمني)، وحضرموت وشبوة من جهة أخرى (قوات النخبة متبوعة باسم المحافظة)، وهي قوات لا تتبع مباشرة للحكومة اليمنية، وإنما لشخصيات يمنية تتعامل مباشرة مع القيادات الإماراتية. وتشير اللوحات الإرشادية، على الطريق الممتدة لـ600 كيلومتر تقريباً بين عدن وحضرموت، إلى أغلب المسميات التي ترد في نشرات الأخبار عند الحديث عن هجمات تنظيم "القاعدة في جزيرة العرب" ضد النقاط العسكرية، وهي زنجبار، وشقرة، وأحور، والمحفد، والخبر. وسترى في منطقة الخبر هيكلاً لسيارة كان يستقلها القيادي في "القاعدة"، جلال بلعيدي، عندما استهدفته طائرة أميركية من دون طيار على بعد أقل من كيلومترين عن قريته. كما ستقرأ عبارة "كلنا جلال بلعيدي" على جدار نصف مهدم. وبلعيدي هو من قاد عملية إرهابية غير مسبوقة في اليمن، بذبحه 14 عنصراً من الجيش اليمني، في محافظة حضرموت، مع نشر مشاهد العملية منتصف العام 2014. والطريق المكشوف تماماً، والذي يقع وسط كثبان رملية وأرض عراء، يساعد على فهم تكرار عمليات استهداف الجنود من قبل "القاعدة" فيه. وتظهر على مسافة قريبة من سيارة بلعيدي عبارة "من هنا مرت القاعدة"، وهيكل لدبابتين مدمرتين على جانبي الطريق خارج زنجبار التي شهدت معارك عنيفة عند سيطرة "القاعدة" على مناطق من أبين منتصف 2011، فيما لا زالت المباني، التي يندر أن تتجاوز الطابق الواحد، مدمرة. وتتناثر إطارات السيارات المعطوبة على طول الطريق بشكل مخيف، إذ إن الحرارة المرتفعة تتسبب بانفجارها. كما أن السيول التي غمرت المنطقة بعد أشهر على بدء الحرب دمرت مئات الأمتار من الطريق، التي لم يتم إعادة إصلاحها بعد. وأفضل هدية يمكن أن تمنحها لجندي يقوم بتفتيشك أو التأكد من هويتك، في عشرات النقاط الأمنية والعسكرية هناك، هي قنينة ماء باردة.
وفي منطقة بلحاف بشبوة، يقع الميناء الوحيد لتصدير الغاز المسال، وهو أكبر مشروع استثماري في اليمن. وقد تم تكثيف النقاط الأمنية في المنطقة، وتحصين المطار، التابع للميناء، بأكياس رملية، كسور يحيط به ويحميه من هجمات إرهابية محتملة. وعند مدخل هذه المنطقة يرتفع علم السعودية إلى جوار علم جنوب اليمن قبل الوحدة. ويتبين أن هناك نقاطاً أمنية تتبع للضالع وأخرى تتبع لردفان، وقد تم توزيع مهام الإشراف على تلك النقاط على مجندين يتبعون لمناطق محددة، فأغلب من تم تجنيدهم أخيراً يتحدرون من مناطق معينة، أبرزها ردفان، والضالع، ويافع. ولا يختلف المشهد عند اقترابك من المكلا، عاصمة محافظة حضرموت، إلا بظهور بعض الجبال على جوانب الطريق. ولا يزال أحد هذه الجبال، الذي يوجد في محيطه معسكر للجيش، يحتفظ بعبارة عملاقة على جانبه الغربي "الله، الوطن، الثورة، الوحدة"، وإلى جوارها شكل رباعي في كل زاوية منه رقم يشير إلى مناسبة وطنية يمنية "22، 26، 14، 30". وتشير بالترتيب إلى 22 مايو/ أيار 1990 تاريخ إعلان الوحدة اليمنية، و26 سبتمبر/ أيلول 1962 تاريخ ثورة شمال اليمن ضد الإمامة، و14 أكتوبر/ تشرين الأول 1963 تاريخ بدء الكفاح المسلح ضد الاستعمار الإنكليزي لجنوب اليمن، و30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 تاريخ جلاء آخر جندي بريطاني عن الجنوب. وهذه العبارات تلفت الانتباه لأنها الإشارة الوحيدة التي يمكن أن تصادف فيها رمزاً للوحدة اليمنية، فكل الأعلام المرفوعة على طول الطريق هي لجنوب اليمن قبل الوحدة، نظراً لأن القوات التي تتولى إدارة أمن الجنوب تابعة بطريقة أو بأخرى لـ"الحراك الجنوبي" الذي يطالب بانفصال الجنوب عن الشمال، وهو حليف مباشر لدولة الإمارات التي تتولى الإشراف على مهام وتدريب تلك القوات بالتنسيق مع بعض قياداته.
وعلم السعودية ليس الوحيد الذي ستشاهده إلى جوار العلم الجنوبي السابق، إذ يرتفع علم الإمارات إلى جوار علم الجنوب في منطقة بروم المؤدية مباشرة إلى المكلا، كما يرتفع علم السعودية في بلحاف. وفي المكلا سترى رسماً عملاقاً لوجه حاكم دبي، محمد بن راشد آل مكتوم، بجوار المركز التجاري الأكبر في المدينة. وفي سيئون، التي تتبع أيضاً لمحافظة حضرموت، وهي أكبر محافظة يمنية من حيث المساحة، إذ تصل مساحتها إلى نحو ثلث مساحة اليمن، ستشاهد علم الجمهورية اليمنية مرفوعاً في أكثر من مكان، وآثاراً للعلم الجنوبي السابق على جدران المدينة. وتقع سيئون تحت سلطة الشرعية وهادي كما يفترض أن تكون عليه مناطق الجنوب الأخرى التي لا تَلحظُ فيها علم اليمن الموحد ولو مرة واحدة.