04 نوفمبر 2024
أزمة مسار العدالة الانتقالية في تونس
شكلت العدالة الانتقالية مطلبا ملحا للنخب التونسية، منذ الثورة. إذ قدمت تونس حالة استثنائية في تحولها الديمقراطي، فقد استطاعت أن تتجنب اندلاع أعمال انتقامية تطاول أنصار النظام القديم، ومنتسبي أجهزة الأمن التي نفذت سياسات الطاغية القمعية. على خلاف كل تلك التوقعات، لم تسجل أي اعتداءات على هؤلاء، فيما ألقت المواقع الاجتماعية والوثائق التي تسربت من المراكز الأمنية التي هجرها أعوانها، أو حيّدها الثائرون، أسماءهم على العلن، وحتى عناوينهم بدقة أحيانا، لكن الضحايا اختاروا الالتجاء إلى القانون. تشكلت مئات الجمعيات التي كانت مهمتها الأساسية المطالبة بالعدالة الانتقالية، حتى لا تتكرّر تلك المآسي، والتعريف بفضائلها، ونشر ثقافتها، وحث الضحايا والنخب على الاحتكام إليها، لما فيها من مزايا تقوم تحديدا على كشف الحقيقة وجبر الضرر والمحاسبة، فضلا على المصالحة الوطنية الشاملة. حملت إحدى وزارات حكومة الترويكا هذا الاسم، وعملت مع المجتمع المدني على إصدار قانون خاص بها، وتدشين مسارها، ثم من رحم هذه الوزارة نشأت، بمقتضى ذاك القانون، هيئة الحقيقة والكرامة التي أوكل لها القانون إدارة ملف العدالة الانتقالية. انتخب المجلس التأسيسي آنذاك لها إدارة تنفيذية، في ولادة عسيرة، ناجمة عن التجاذبات السياسية وموازين القوى. وتولت المناضلة الحقوقية سهام بن سيدرين رئاسة الهيئة، واشتغلت مع فريقها في مناخ صعب، وهي تواجه شراسة الدولة العميقة التي أوحت لمؤسسات الدولة هذه بعدم التعاون معها، فلم تمنحها ما ينص عليه القانون، فعمدت رئاسة الجمهورية مع الرئيس الحالي ووزارة الداخلية إلى منع الأرشيف عنها، فضلا عن حيل التعطيل والمضايقات التي تذكّرنا بأساليب النظام السابق أحيانا.
تعثر هذا المسار بشكل دراماتيكي، منذ صعود حزب نداء تونس إلى الحكم على إثر انتخابات
2014. ورفضت وزارة الداخلية تحديدا تحت كل من أشرف عليها، منذ ذلك التاريخ، التعاون مع الهيئة، بل كانت تنظر إليها خصما. وكذلك فعلت جل الوزارات والمؤسسات العمومية ذات الصلة، حيث أصرت على رفض التعامل معها. ولكن الهيئة قامت بجهد استثنائي، حيث جمعت أكثر من 60 ألف ملف، ونظمت عشرات جلسات الاستماع التي نقلتها وسائل الإعلام الوطنية والدولية مباشرة، ليكتشف الرأي العام حجم الانتهاكات التي ارتكبت. ومع ذلك، ظلت تعاني من نقص كبير، إذ لم يستجب لدعوة الهيئة وقانون العدالة الانتقالية أي شخصٍ متهم بانتهاك حقوق الإنسان، فلم يعتذر أي شخصٍ عما ارتكب، بل تكرست، منذ قدوم حزب نداء تونس إلى الحكم، حالة الإفلات من العقاب، فقد استقبل الرئيس الباجي السبسي، مثلا، وزراء متهمين قضائيا بممارسة التعذيب في عهد زين العابدين بن علي، وصدرت في حقهم أحكام، ما شكل ضربة موجعة لبيداغوجيا التعامل مع ملف العدالة الانتقالية. كما رفضت وزارة أملاك الدولة، ممثلة في شخص المكلف العام بنزاعات الدولة، أي تماش من أجل تسلم الدولة مستحقاتها ممن استولوا على ملكها، وأساءوا التصرف فيه، من وزراء ومسؤولين. لا أحد ينكر أن بعض تلك العراقيل قد تعود إلى "حوكمة الهيئة ذاتها"، على غرار غياب الانسجام الداخلي للأعضاء، فانسحب بعض منهم، وأقيل آخرون، وعصفت تلك الخلافات بأدائها وصورتها، وهي مطاعن استغلها خصومها للإجهاز على مسار العدالة الانتقالية نفسه.
لكل تلك الاعتبارات، لم تستطع هيئة الحقيقة والكرامة أن تنجز مهامها في الآجال التي ضبطها القانون، فقرّرت، وفق القانون نفسه، أن تمدّد لأعمالها سنة، غير أن مجلس نواب الشعب كان له، في إجراءات متعسّفةٍ، رأي آخر، حيث رفض التمديد لها في جلسة عامة، اعترتها عيوب عديدة. لم تستسلم الهيئة لهذا القرار الجائر، وتمسّكت بحقٍّ تراه من صميم صلاحيتها.
حاليا، تبدو كل الاحتمالات مفتوحة، وقد قرّرت الهيئة تمديد أشغالها سنةٍ، غير عابئة بقرار
مجلس نواب الشعب الذي اعتبرته باطلا، وفاقدا الشرعيتين، الأخلاقية والقانونية. والأرجح أننا سنكون أمام فصلٍ مطولٍ من معركةٍ سياسية وقانونية بين مجلس النواب والهيئة، خصوصا وقد عرف عن سهام بن سيدرين قدرة هائلة على إدارة الصراع والمناورة، وهي التي خاضت معارك شرسة مع الرئيس المخلوع، بن علي، أكثر من عقدين. كما بدأت ردود الأفعال تصدر عن أكثر من جهة حزبية ومدنية. وينتظر أن تشهد الساحة السياسية تحرّكاتٍ بدأتها حركة "مانيش مسامح" في اجتماعاتٍ في شارع الحبيب بورقيبة. وبقطع النظر عن التطورات في هذا الملف الشائك، سيتعثر مسار العدالة الانتقالية مرة أخرى، تاركا المجال لتأجيج مشاعر الإحباط والخيبة لدى عشرات الآلاف من ضحايا النظام السابق، من مناضلين سياسيين وحقوقيين منتمين لجميع التوجهات والمشارب.
تعثر هذا المسار بشكل دراماتيكي، منذ صعود حزب نداء تونس إلى الحكم على إثر انتخابات
لكل تلك الاعتبارات، لم تستطع هيئة الحقيقة والكرامة أن تنجز مهامها في الآجال التي ضبطها القانون، فقرّرت، وفق القانون نفسه، أن تمدّد لأعمالها سنة، غير أن مجلس نواب الشعب كان له، في إجراءات متعسّفةٍ، رأي آخر، حيث رفض التمديد لها في جلسة عامة، اعترتها عيوب عديدة. لم تستسلم الهيئة لهذا القرار الجائر، وتمسّكت بحقٍّ تراه من صميم صلاحيتها.
حاليا، تبدو كل الاحتمالات مفتوحة، وقد قرّرت الهيئة تمديد أشغالها سنةٍ، غير عابئة بقرار