أزمة الخليج وأميركا و"العلمنة" الخائبة

06 اغسطس 2017
+ الخط -
في وصفٍ ساخر للمستشرق الفرنسي، هنري لورنس، لمنطقة الشرق الأوسط، قال إنّه عندما كان يُراد وصف أميركا اللاتينية، يُقال إنّها بعيدة جداً عن الله وقريبة جداً من الولايات المتحدة، أما الشرق الأوسط فإنّه قريبٌ جداً من الله وقريبٌ جداً من الغرب، وهذا منشأ مأساته. وفي قراءة أخرى، يمكن القول إنّ الكلّ الآن أصبح بعيداً عن الله، وقريباً من الولايات المتحدة.
في حديثه أخيرا لقناة تلفزيونية أميركية، تمنّى السفير الإماراتي لدى واشنطن، يوسف العتيبة، أنّه بعد عشر سنوات ستتحول دولته الإمارات، بالإضافة إلى السعودية ومصر والبحرين والأردن، إلى دول علمانية بالكامل، لتكون مزدهرة وقوية. ويعتبر حديث العتيبة عن علمنة دول الخليج نداء باستعجال الربيع الخليجي، لأنّه ببساطة لن تستوي العلمانية بلا أساس ديمقراطي. ومن ناحية أخرى، يعبّر عن عدم اتساق مع ما تقوم به دولة الإمارات من محاولات لإجهاض الثورات في بلدان الربيع العربي. فبعدما نجحت في إطاحة نظام ديمقراطي في مصر بتنحية الرئيس المنتخب، محمد مرسي، واستبدلته بنظام عسكري وتنصيب الرئيس عبد الفتاح السيسي بدلاً عنه، اتبعت النهج نفسه في ليبيا واليمن.
ففي ليبيا، أعلن اللواء المتقاعد خليفة حفتر، المدعوم من الإمارات، أنّه يمكن لسيف الإسلام القذافي العودة إلى ممارسة الحياة السياسية، بينما يتردّد أنّه تم إطلاق سراحه، رغماً عن الإجراءات القانونية، ونقله خفية إلى الإمارات، ما أثار استهجان المجلسين، البلدي والعسكري، في الزنتان غربي ليبيا، ووصفا الإفراج عن سيف الإسلام تواطؤا وخيانة لدماء الشهداء، وطعنة للمؤسسة العسكرية التي يدّعون الانتماء إليها، وهو الملاحق من محكمة الجنايات الدولية، لاتهامه بارتكاب جرائم حرب، بسبب قمعه المعارضة لحكم والده معمر القذافي، قبل أن يثور عليه الشعب الليبي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011. كما نادت الإمارات بعودة أحمد، نجل الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، إلى ممارسة الحياة السياسية في اليمن، وهو الملاحق بعقوبات أيضاً.
هذه التحرّكات، وضمنها تصريح العتيبة، عودة إلى الوراء، حيث الديكتاتوريات التي انتفضت
وثارت عليها الشعوب العربية في ربيعها المعبّر عن إرادة حرة من دون إملاء من أحد، لنفض غبار سني التجبّر والطغيان. وهو أيضاً تأسيس لنظام توريث أبناء الديكتاتوريين، واستعادة أنظمة مستبدّة بادت بإرادة الشعوب، في شخوص أبنائهم. وفيه من التشفّي الكثير المرير، وكأنّه لا يكفي أن يحكم الديكتاتور أربعين عاماً، حتى يُؤتى بابنه من السجن، ليواصل أربعين عاماً أخرى.
واضح أنّ يوسف العُتيبة يصلي بلسان ويغنّي بلسان، فصلاته لمحيطه العربي تتمثّل في التخويف من نُظم عربية اختارت طريق الحرية بتصويرها بعبعا مخيفا، ويضع خيار دولته لهذه الدول المعنية منذ قيام ثورات الربيع العربي بأن يختاروا العيش في الاضطراب الحالي أو أن يختاروا أنظمة قوية عسكرية قادرة على محاربة الإرهاب.
أما تطريبه فهو للمجتمع الدولي وللولايات المتحدة الأميركية فهو التبشير بعلمنة دول بعينها في الشرق الأوسط، منها دولته. وهنا المفارقة في أسئلة ملحّة: لماذا لم يشمل دول الربيع العربي ضمن نفحته العلمانية هذه، إذا كانت العلمانية خيرا كلها؟ وماذا يحرم غيره من هذا التحوّل المأمول في عشر سنوات، من "نعمةٍ" يراها ستغيّر وضع المنطقة تماماً من اضطرابٍ إلى استقرار دائم؟
ليست الإجابة صعبة، كما أنّها ليست بالسهولة المحتملة، لكنها تحتاج قراءة ما بين سطور الاحتيال في الطرح. منذ ما قبل الثورات الربيع العربي، كان الأمل كبيراً ومنعقداً على تقسيم دول المنطقة العربية إلى دول سيّدة وأخرى تابعة. الدول السيّدة هي القريبة جداً من أميركا وإسرائيل، والتابعة هي دول الربيع العربي، لأنّ الثورات كانت انتفاضة ضد التبعية داخل إطار الدولة للحاكم الظالم وضد التبعية للغير.
حديث العتيبة "صحيحٌ"، أي لا غرض عند أحد لفبركته، على الرغم من تناقضه الواضح، فهو وإن كان يتحدث من اللاوعي، ومن العقل الباطن لدهاليز سياسة دولة الإمارات، فهو أفصح عما حيّر العالم العربي من أدوار تقوم بها دولته، ظلت حتى وقتٍ قريب مثار تكهنات، فعلى لسانه تريد دولته أن تتحول، ومعها بعض الدول المختارة التي شملتها أميركا برضاها إلى دولٍ علمانية، وستظل البقية المغضوب عليها، بما فيها دول الربيع العربي استبدادية محكومة بقوانين مجلس الأمن والعقوبات الدولية. وفي أحسن حالات الرضا عليها، فإنّها ستنال من كرم القبول إذا أُمرت أطاعت. الإمارات ببساطة تبحث عن دورٍ أكبر في المنطقة، حتى بالتغول على دور دول أكبر منها عدةً وعتاداً ورمزية دينية.
تدرك الولايات المتحدة أنّ الولاء لها لا يجري المجرى نفسه من المحيط إلى الخليج، كما أنّ هناك نزاعا بين الحكومات وشعوبها على هذا الولاء الممهور لها عنوة. ولذا، هي تقف واثقةً من أنّ توقها إلى التدخل في شؤون البلدان العربية يضمنه لها تاريخها، إذ لا تعمد إلى التدخل المتهافت، وإنّما تمثّل دور القوة المتورّطة التي يتم الاستنجاد بها، وتضحي من أجل ذلك. وتلعب الإدارة الأميركية على متناقضاتٍ مثل هذه، لأنّها متشرّبة بالثقة نفسها من أنّ الأنظمة الحاكمة ترتكز على ثقافةٍ سياسيةٍ، قوامها معاداة الإمبريالية، وثمة فجوة بين الممارسة والأيديولوجيا في حالة الادعاء العلماني، أو تطابق بينها وغيرها من الديكتاتوريات.
(كاتبة سودانية)
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.