أربع قوى متصادمة في المنطقة
إيران: القوة الخشنة"، هي قوة من صلب المنطقة، لها أمجاد تاريخية ما زالت تعشعش في عقول قادتها وقلوب شعبها الفارسي، وتحلم ببعث فارسي. ولديها كتلة سكانية كبيرة، تقارب الـ 75 مليوناً، وقدرة علمية وتكنولوجية تفوق جيرانها، وقدرة على صناعة قنبلة نووية، وتحتل موقعاً حاكما في أهم منطقة لإنتاج النفط في العالم، وهي تقيم حكماً شمولياً استبدادياً معادياً للديمقراطية وحق الشعب في قول كلمتة بحرية، ويعيق تداول السلطة، ويمنع أي تغيير في طبيعة النظام والفئة الأوليغارشية الثيوقراطية الحاكمة.
لأنها تحولت إلى المذهب الشيعي منذ أربعة قرون، في صراعها مع الدولة العثمانية، وقامت بها ثورة، اتخذت لبوساً دينياً في ربيع سنة 1979، وأقامت سلطة استبدادية أوليغارشية، فقد اتخذت الإسلام الشيعي هوية، وتسعى إلى تهييج الشعور الديني الشيعي، وتضخيم ما يسمى المظلومية التاريخية للشيعة، وتعيد إحياء خلاف مر عليه أربعة عشر قرناً، وتعكسه في ممارسات اللطم الغريبة عن روح العصر، كأداة لإيجاد عصبية تعزيز نفوذها في منطقةٍ، تدين غالبيتها بالمذهب السني. يستلزم هذا التحول صداماً كبيراً لكي تستطيع إيران أن تزيد نفوذها وتتمدد عبر تصدير الثورة وتوسيع التشيع الذي يغدو أشبه بحصان طروادة. لذلك، هي تدخل المنطقة في صراعات لا تنتهي. وسيكون توسيع نفوذها على حساب العرب الضعفاء.
برزت نتائج سياستها في العراق، فأدت إلى خرابه عبر حربين وحصار واحتلال أميركي، وحكم مستبد مذهبي. وفي اليمن، أنتجت الحوثيين ببرنامجهم لاحتلال اليمن الذي سيؤدي، اليوم، إلى دماره. وفي غزة، تدعم حماس على نحو يعيق أية مصالحة فلسطينية. وفي لبنان، حولت الطائفة الشيعية من جماعة منفتحة على العصر، وحاوية للفكر الوطني والقومي واليساري، إلى جماعة تخضع لحزب الله الذي يجاهر بولائه لإيران، وليس للبنان، وأصبح قوة تزعزع استقرار لبنان. وفي البحرين، تسعى إلى الاستيلاء على السلطة، وتعمل على إثارة الشيعة في شرق السعودية. وفي سورية، تسهم بقوة في إعاقة الوصول إلى حل سياسي للكارثة السورية.
تركيا: القوة الناعمة، قوة أساسية من صلب المنطقة، وإن كانت أحدث من الفرس، لكن تركيا التي تدين بالمذهب السني، ولديها حكومة إسلامية، وتشعر أنها تعمل في محيط صديق، لسببين، فهي كانت، حتى الأمس القريب، تسيطر على فضاء عثماني واسع، يشمل الجزء الأكبر من بلدان العرب، وجزءاً من شرق أوروبا، ثم لها امتداد إثني في وسط آسيا. هذا يشجعها لأن تكون قوة إقليمية كبرى، وهي دولة تعد 75 مليون نسمة، وقد أطلق على نهجها تجاه المنطقة "العثمانية الجديدة"، وتقع على منطقة مهمة ومضائق استراتيجية، وتربط بين أوروبا والعرب، وأوروبا ودول وسط آسيا، وهي عضو في حلف الناتو، ولها علاقات وثيقة بأوروبا، ولديها قوة علمية وقدرة تكنولوجية متقدمة، تستطيع أن تصنع قنبلة ذرية، لكنها لا تفعل، وهذا أحد أمثلة التضاد بين نهجها ونهج إيران.
ويشجع نجاحها الاقتصادي على أن تكون قوة إقليمية أولى، وهي تستعمل ما تسمى القوة الناعمة، أي العلاقات التجارية والاقتصادية والعلاقات الدبلوماسية والنشاط الثقافي (موجة المسلسلات التركية مثلا). وقد وسعت علاقاتها التجارية مع بلدان المنطقة، لترتفع تبادلاتها التجارية معها من نحو 10% إلى نحو 35%. وهي تقدم نموذجاً إسلامياً معتدلاً، يتعايش مع قيم العصر ومقبولاً عالمياً. ولا تطرح نهجها الإسلامي بقوة. وقد حققت نجاحاتٍ في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت تحلم طوال 2011 بأن يكون الربيع العربي موجة من الثورات التي تحول بلدانه إلى نماذج من أنظمة حكم إسلامية قريبة منها، وقدمت نموذجها الاسلامي التركي موديلاً يحتذى. ولكن نجاحاتها بدأت تتراجع، ولم يسمح لها أن تمد نفوذها إلى أواسط آسيا، حيث سيطر الأميركان. وتقف بوجه حكومتها الإسلامية قوى داخلية علمانية قوية، تجبرها على نهج سياسي ديمقراطي، يعززه طموح بالانضمام إلى أوروبا، ما يخلق التوازن في سياساتها.
إسرائيل: القوة الدخيلة، قوة دخيلة على المنطقة، هي تحقيق لحلم بعض المجانين، وقد لقي هوى في نفوس قادة بريطانيا أولاً، وأوروبا ثانياً، وتعتمد في بقائها على الدعم الغربي، والأميركي خصوصاً. وإسرائيل واليهود عموماً بارعون في ابتزاز هذا الدعم. وهي القوة العلمية والتكنولوجية والصناعية الأولى في المنطقة، ولديها نحو 200 قنبلة ذرية، على الرغم من صغر حجمها. ولكن، ولأنها دخيلة لم تستطع أن تحقق اختراقاً في المنطقة، ولا أن تكون مقبولة، ولا يعتقد أنها ستنجح في ذلك، فتعصب قادتها وتحول مجتمعها نحو اليمين، ونمو قوى التطرف الديني، يحولانها إلى مجتمع عسكري، وتصبح أشبه بثكنة عسكرية، تحتاج دائماً لمن تحاربه كي تبقى. فهي مجتمع صغير يخشى السلام، ويخشى الاستقرار، ويخشى الانفتاح، ما يهدد وجودها بالذوبان في محيط واسع من العرب. لكنها، بتقدمها العلمي والتقني والإداري والاقتصادي، تتفوق على جميع العرب مجتمعين. وهذا ما يتسق مع طبيعة العصر، فالقوة اليوم للعلم والمعرفة، وهي لا تسمح للمجانين المتعصبين وغيبياتهم أن يقتربوا من عقلها وعقلانيتها، لكيلا يؤثروا على قدرتها العلمية والتكنولوجية والإنتاجية، بل تحول هذا التعصب إلى خدمة مصالحها، كثكنة عسكرية في محيط معاد، كان وسيبقى.
العرب: القوة الفاشلة، هم قوة أساسية كبيرة في المنطقة، لها ماض مجيد تحلم باستعادته، وتملك، اليوم، قوة بشرية لا تضاهى في المنطقة، وقوة اقتصادية كبيرة وموقعاً استراتيجياً، ولديها جامعة عربية، ومنظمات عربية مشتركة كثيرة، لكنها جميعها بفاعلية ضعيفة. وقد فشل القوميون في بعث الأمة العربية من رمادها، فبقي العرب شراذم مشتتة متفرقة، تفتقد المشروع والقيادة. لذا، تستبيحها القوى الثلاث الأخرى، فهم، اليوم، أشبه بـ"تركة الرجل المحتضر"، كما أطلق على الامبراطورية العثمانية، مطلع القرن العشرين.
كل قوة تسعى إلى تعزيز نفوذها وتوسيعه، وإن اختلفت المناهج. وعلى الرغم من أن العرب كانوا سباقين في مشاريعهم النهضوية، غير أنهم لم يكونوا حازمين، وتتغلب نزعتهم الماضوية على نزعتهم الحداثية، ومشروع النهوض القومي الذي مثله جمال عبد الناصر لم يؤسس لمشروع ثابت، لاعتماده على شخص عبد الناصر فقط، بدلاً من تحويله إلى تيار، واليوم ثمة من يريد إعادتنا 14 قرناً إلى الوراء.
الربيع العربي بشر، في بداياته، بنهضة وعي شعبي ذاتي، كان يتوقع له أن يطلق، في حال انتصاره، القوة العربية الكامنة، لكنه تحول إلى خريف، بات يهدد ما لدى دوله من إمكانات، على الرغم من الاعتقاد بأنه سيؤدي، مستقبلاً، إلى أوضاع تطلق قدرات الشعوب والبلدان العربية، وتدمجها في مشروع نهضوي واحد، ليكون المشروع العربي القوة الأولى في المنطقة، فإن الوصول إلى ذاك اليوم لا يبدو على الأبواب. ولن يكون العرب قوة تحسب حسابها إلا إذا امتلكوا مشروعهم، واتخذوا من العقل والعقلانية نبراساً يهديهم سواء الطريق.