أكثر من خمس سنوات بقليل منذ أن بدأت رياح التغيير تهب على العالم العربي، ضمن ما عُرف بـ "الربيع العربي". كانت شوارع العواصم العربية من تونس إلى القاهرة ومن الرباط إلى دمشق فضاءات لشعارات جرى الالتفاف على بعضها فيما ظلّت أخرى تستمد طاقتها من المنابع الروحية للشعوب العربية.
في محاضرة ألقاها أمس في العاصمة المغربية الرباط بعنوان "الدلالات الفلسفية لوضع الثورة الراهن"، عاد المفكّر التونسي أبو يعرب المرزوقي إلى هذه الشعارات مقلّباً إياها على ضوء الفلسفة، تحديداً فلسفة التاريخ وفلسفة الدين.
الشعار الأبرز الذي يقف عنده المرزوقي هو "الشعب يريد"، والذي يرى بأنه حسم قضية "لمن تعود السيادة في الأوطان؟". يترجم هذا الشعار عملياً إلى مطالب أهمّها الحرية والكرامة.
اعتبر المرزوقي أن هذا الشعار، إضافة إلى أبعاده السياسية، مشبع بحمولة روحية، فاستعماله، بحسبه، يدل على إرادة تغيير مفهوم القضاء والقدر، لأن الشعار مستلهم من بيت للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، يمثّل صياغة شعرية للآية القرآنية "إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم".
يرى صاحب "الاجتماع النظري الخلدوني" أن رفع هذا الشعار يمثّل رفضاً للقراءة التي تعتبر أن القضاء والقدر هما اللذان يحدّدان التاريخ أو أفعال الإنسان، وهو المطب المعرفي والتاريخي الذي سقطت فيه الحضارة الإسلامية، وجرى تبرير الهزائم، ومنها الاستعمار، من خلاله.
يشير المرزوقي إلى أن الثورة، في تونس مثلاً، سرعان ما اكتشفت أن الإمكانيات المادية لبلد ما لا يمكن أن تحقّق الحرية والكرامة، وهو ما يسميه بـ "قدر الجغرافيا"، الذي لا يكفي لبناء تنمية اقتصادية وعلمية. يمكن تعميم هذه الفكرة على كل بلد عربي على حدة، بمعنى أن المجال الجغرافي الضيق لهذه البلدان يقف ضد التنمية الاقتصادية، وبالتالي سقطت الثورات عند "عجز في السيادة".
من هنا، يعتبر المرزوقي أن المعركة ليست فقط في المطالبة بالحرية والكرامة، وإنما المطالبة أيضاً بتحقيق شروطهما، ما ينقل الثورة من ما هو محلي إلى ما هو إقليمي، أي أن المطالب لن تتحقّق إلا إذا جرت إزالة "الجغرافيا الاستعمارية والتاريخ الاستعماري".
يكشف صاحب "استئناف العرب لتاريخهم الكوني" أن ذلك لم يكن العائق الوحيد أمام الربيع العربي، إذ قوبل كل حراك ثوري بـ "ثورة مضادة داخلية"، أرادت الحفاظ على الفساد داخل الدولة، حيث أن مشروع الدولة الجديد النابع من شعارات الثورة يقتضي توزيعاً عادلاً للثورات، وهو ما يتعارض مع مصالح المستفيدين من النظام الاستبدادي، إضافة إلى مصالح في الإبقاء على الجغرافيا الاستعمارية، وهو ما تغذّيه الدول الاستعمارية حفاظاً على مصالحها هي الأخرى، وهو ما يسمّيه بـ "ثورة مضادة عالمية".
وهنا تكمن المعركة، بحسب أبو يعرب المرزوقي، فالتاريخ الاستعماري هو الذي يعمل على إلغاء التاريخ الموحّد للمسلمين، ويقتل كل إمكانية للإبداع.