أبو رشيد الذي انتحر

26 يناير 2015
يسأل عن عن حقل قمح فقده (روبرتو شميدت/فرانس برس)
+ الخط -
أبو رشيد، قرويّ الولادة، أحنى العمر ظهره قليلاً وهو على مشارف السبعين. مورد رزقه عبارة عن مخصّص بسيط من أولاده المقيمين في الخارج. شاء القدر أن يخطف رفيقة عمره فصار وحيداً أسير عزلته. تخنقه ذكرى زوجته. يقضي معظم وقته صامتاً مسمّراً عينيه نحو رسمها المعلّق على الجدار، ما اضطر أولاده لسلخ جسده عن مسقط رأسه ونقله للإقامة في بيروت عند ابنه الأكبر سنّاً.

مرت الأيام وأبو رشيد سجين علبة الإسمنت. لا جليس ولا أنيس سوى ممرضة ترعاه، ينظر إليها ويتأفّف. سرعان ما بدأت خطى العجوز تثقل وتتعثّر، وصارت تظهر عليه علامات الانفصال عن الواقع. تارةً يطلّ برأسه من النافذة، يسأل عن كرم تين أضاعه أو عن حقل قمح فقده منذ زمن، وطوراً يخال نفسه في ساحة حرب، يلتفت يمينا ويساراً ويجول بعينيه في الفراغ، ويتمتم بكلمات غير واضحة، سائلاً عن "الزنزلختة" التي كانت تقيه حر النهار.

كثيراً ما ينبش صور شبابه من أرشيف ذاكرته. يوم كان مفتول العضلات يحمل على أكتافه جبلة الإسمنت وحجارة الصخر التي عمّر بها غرفة بيته الأولى. يرغم جسده على الوقوف من دون انحناء، ويتحسّر على سنوات عمر ضاعت. حتى ذاكرته لم تسعفه، وأكثر ما صار ينساه هو الأسماء. كلّما نادى أحدهم، تتوالى على لسانه أسماء غريبة. دلال كان الاسم الوحيد الذي بقي عالقاً في ذاكرته، وهو اسم زوجته. غالباً ما يستيقظ من النوم ويردد اسمها. حتى أنه كان يخالها واقفة أمامه، فينهرها ويذكّرها بإغلاق بوابة الدار، كي لا تدخل الكلاب وتلتهم الدجاجات.

كثيراً ما كان يحكي مع الله ويناجيه. "شو عم يشربوا شاي عندك؟ يلا جاي صوبكم". يسأل عن أصدقاء له ماتوا، كمن يعتقد أنه فارق الحياة بموتهم. في كل مساء، يقف على الشرفة، ويناديهم بصوت جهوري ويدعوهم لشرب الشاي. وحين لا يلقى جواباً، يفتح باب البيت ويرن الجرس ثلاث أو أربع مرات، ثم يغلق الباب، ليعود مسرعاً ويفتحه كأن هناك من ينتظره ويحبّه، حتى ظنّ الناس أنه مجنون.
كان البيت خالياً ذاك الصباح. أدار أبو رشيد صوت الراديو كعادته، الذي حرص أن يكون مكانه إلى جانب الكنبة التي يجلس عليها. رفع الصوت كثيراً هذه المرة. كان يستمع إلى فريد الأطرش مسمّراً عينيه نحو الباب كمن ينتظر مجيء أحد. مرّ وقت طويل وهو على هذا الحال.
نهض عن الكنبة. غسل وجهه. رنّ جرس البيت أربع أو خمس مرات. أغلق الباب. عاد وفتحه مجدداً. وبعد ساعات قليلة، استفاق أهالي الحي على صوت ارتطام جسم بشري بسقف سيارة. رمى أبو رشيد نفسه من الطابق العاشر.