05 نوفمبر 2024
أبو الغيط... الارتكاس إلى الاستبداد
يثير انتقال الأمانة العامة لجامعة الدول العربية من نبيل العربي إلى أحمد أبو الغيط تساؤلات حول معنى هذا الانتقال ومبناه، الذي يظهر في المقاربة بين أول وزير خارجية لمصر بعد الثورة المصرية، وآخر وزير خارجية في عهد حسني مبارك. يكشف الأمر عمق الدلالة في مدى الانتكاسة الحاصلة في العالم العربي، ومدى الارتكاس والارتداد في مصر، والانتقال المرير من مرحلة ما بعد الثورة إلى عهد الاستبداد من جديد.
وإن كان اختيار العربي لأمانة الجامعة جاء بعد نجاح ثورتي تونس ومصر بإسقاط رأسي النظامين الاستبداديين في البلدين، وفي وقت امتدت فيه حركات الاحتجاج الشعبي إلى سورية، فضلاً عن اليمن وليبيا والبحرين، وغيرها من البلدان العربية، فإن اختيار أبو الغيط أميناً عاماً ثامناً للجامعة جاء ليتوّج اكتمال قدرة النظام العربي الحاكم على الممانعة ورفض التغيير، والوقوف ضد تطلعات الشعوب العربية، في نيل حريتها واسترجاع كرامتها، وخصوصاً أنه يأتي، بعد أن استجمع هذا النظام كل قواه، واستنجد بمختلف قوى الخارج، كي يوقف المتغيرات التي حملتها الثورات والحركات الاحتجاجية العربية التي مثّلت تحولاتٍ كبرى في التاريخ العربي المعاصر، وسطّرت مرحلةً جديدة، بدأت بالتشكل، منذ قيام الحركة الثورة التونسية، وما زالت رياحها تجتاح معظم البلدان العربية، لكن موازين القوى كانت، ومازالت، في صالح الارتكاس والارتداد إلى عهد الاستبداد، وتحطيم آمال الشعوب العربية الذي بدأ في مصر، وامتد إلى تونس، واستدعى غزواً روسياً لسورية، لكي يخوض النظام الروسي، أو بالأحرى النظام البوتيني، حرب تحطيم آمال الشعب السوري التي لم يتمكن وقوف نظام الملالي الإيراني من تحطيمها، على الرغم من انخراطه، بكل قواه وإمكاناته، فيها، واستدعائه ميليشيا حزب الله وكل المليشيات المذهبية، العراقية والأفغانية، التي زج بها لخوض حربٍ مع النظام الأسدي ضد غالبية السوريين.
كان الأمل يحدونا في كل مناسبة، تستدعي تغيراً في بنية النظام العربي، واستجابة فاعلة
للأحداث، في أن المتغيرات والتطورات ستطاول أيضاً جامعة الدول العربية، من منطلق أنه لم يعد بإمكانها الاستمرار وفق نهجها السابق، وأن مهام تغيير كبيرة تنتظرها، خصوصاً في مرحلة الثورات العربية. ولعل أول المؤشرات على ضرورة تغيرها، تجسد في سرعة تحركها بخصوص الوضع الليبي، بعد اندلاع ثورة السابع عشر من فبراير 2011، التي بدأت حركة احتجاج سلمي، حيث عقدت الجامعة اجتماعاً عاجلاً، أعادت فيه الروح إلى كيانها ودورها حيال الشعوب العربية، وظهرت بصورة مختلفة عما كانت عليه قبل ثورتي تونس ومصر.
وظنّ رجل الشارع العربي أن مهمة الجامعة لم تعد محصورة على بقائها مجمعاً أو محفلاً لقادة الدول والأنظمة العربية فقط، بل باتت تحسب حساباً لما يجري للشعوب العربية أيضاً، باتخاذها موقفاً حازماً وصارماً حيال ممارسات النظام الحاكم في ليبيا ضد المدنيين، وقرارها تعليق عضوية ليبيا في الجامعة، إلى حين توقف قتل أبناء الشعب الليبي، ثم ساهم طلبها من مجلس الأمن الدولي اتخاذ الإجراءات المناسبة لحماية المدنيين الليبيين في دفع التحركات الدولية، فأصدر المجلس قراراً بفرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا، الأمر الذي شكل سابقةً في تاريخ جامعة الدول العربية منذ نشأتها.
وبدا للوهلة الأولى أن قرار جامعة الدول العربية بالوقوف مع الشعب الليبي جاء كي يدشن بداية مرحلة جديدة في تاريخ هذه المنظمة، تنسجم مع التغيرات والتحولات الكبيرة التي تشهدها دول عربية عديدة، وبما يفضي إلى تشكل نظام عربي وإقليمي مختلف عن سابقه، لكن موقفها من الثورات في كل من سورية واليمن والبحرين بدّد ذلك كله، وأعاد الجامعة إلى سابق عهدها.
وكشفت الثورات العربية مدى العجز والخلل الكبيريْن اللذيْن تعاني منهما الجامعة، بوصفها منظمة مفصلة على قياس الأنظمة الاستبدادية، وليست منظمةً تلبي تطلعات الشعوب العربية.
ويرجع موقف الدول العربية، المنقسم حيال الثورات والانتفاضات إلى طبيعة الأنظمة الاستبدادية الحاكمة في غالبيتها، وعدم رغبتها في اتخاذ مواقف، يمكن أن ترتدّ عليها فيما بعد، وإلى اهتمام كل نظام عربي بلجم التحركات الاحتجاجية الداخلية في كل بلد وإسكاتها، إلى جانب تخوفه من امتداد التداعيات والإرهاصات السياسية والاجتماعية التي يمكن أن تطاوله، وتطاول معه دول المنطقة.
ولما كانت المؤسسات تنشأ عادة في سياق تاريخي معين، حيث تلعب القوى الأساسية وتداخلاتها الدور الأكبر في تحديد طبيعتها وأهدافها ومسارها، فإن نشأة جامعة الدول العربية في 1945 حملت أسباب ومقومات عجزها واختلافها. فهي قامت، من جهة أولى، على احترام سيادة كل دولة عربية وحمايتها. ومن جهةٍ ثانية، وضعت من بين أهم أهدافها تقوية العلاقات العربية والتعاون العربي، حسبما ورد في المادة الثانية من ميثاقها التأسيسي. لكنها مع ذلك شكلت، على المستويين الحقوقي والقانوني، مفصلاً في عملية الانتقال من البنى الوطنية إلى نظيرتها القومية. وتبيّن من مسيرتها، من لحظة التأسيس إلى اليوم، أنها كانت ميداناً للخيبات والمساومات والتجارب المحدودة، وتحولت إلى مجرد هيئة بيروقراطية، تدور حول نفسها، وتعيد إنتاج حالات التردي والارتكاس والهزائم العربية.
وكان الأمل يحدو عرباً كثيرين في أن تجد الالتزامات والتعهدات التي تتخذها القمم العربية طريقها إلى حيز التطبيق الواقعي، لكنها ذهبت في مهب الهياكل السياسية والاقتصادية التي ورّثها الاستعمار لنموذج الدولة العربية، وكثيراً ما كانت توجهات الدول ومصالحها مرهونة بمصالح نخبها الحاكمة التي آثرت التباعد والتناقض على التكامل والتعاون بين مختلف البلدان العربية. وعلى امتداد أكثر من سبعة عقود، لم يحدث أي تقدم جوهري، أو بنيوي، بين الدول العربية، بل نمت دعوات الاكتفاء الذاتي، اقتصادياً، والاعتماد على العلاقات القوية مع الدول الغربية، بل والتحالف معها عسكرياً واقتصادياً، كما نمت سياسات إقليمية ومحاور عدة، وعمل ذلك كله على إضعاف العمل العربي المشترك.
وفي أيامنا هذه، وبعد انتقال الأمانة العامة إلى أحمد أبو الغيط، فإن مستقبل جامعة الدول العربية ودورها، سينصب على مواجهة ما تحمله الثورات والانتفاضات العربية من متغيرات وتطورات، وعلى تقوية الارتكاس والارتداد، بغية وأد الحلم في تحويل الجامعة إلى بيت للشعوب العربية، وإبقائها بيتاً للحكام والقادة العرب، وهي، في مطلق الأحوال، لم تكن في أي يوم "بيت العرب"، حسبما اصطلح على تسميتها.
وإن كان اختيار العربي لأمانة الجامعة جاء بعد نجاح ثورتي تونس ومصر بإسقاط رأسي النظامين الاستبداديين في البلدين، وفي وقت امتدت فيه حركات الاحتجاج الشعبي إلى سورية، فضلاً عن اليمن وليبيا والبحرين، وغيرها من البلدان العربية، فإن اختيار أبو الغيط أميناً عاماً ثامناً للجامعة جاء ليتوّج اكتمال قدرة النظام العربي الحاكم على الممانعة ورفض التغيير، والوقوف ضد تطلعات الشعوب العربية، في نيل حريتها واسترجاع كرامتها، وخصوصاً أنه يأتي، بعد أن استجمع هذا النظام كل قواه، واستنجد بمختلف قوى الخارج، كي يوقف المتغيرات التي حملتها الثورات والحركات الاحتجاجية العربية التي مثّلت تحولاتٍ كبرى في التاريخ العربي المعاصر، وسطّرت مرحلةً جديدة، بدأت بالتشكل، منذ قيام الحركة الثورة التونسية، وما زالت رياحها تجتاح معظم البلدان العربية، لكن موازين القوى كانت، ومازالت، في صالح الارتكاس والارتداد إلى عهد الاستبداد، وتحطيم آمال الشعوب العربية الذي بدأ في مصر، وامتد إلى تونس، واستدعى غزواً روسياً لسورية، لكي يخوض النظام الروسي، أو بالأحرى النظام البوتيني، حرب تحطيم آمال الشعب السوري التي لم يتمكن وقوف نظام الملالي الإيراني من تحطيمها، على الرغم من انخراطه، بكل قواه وإمكاناته، فيها، واستدعائه ميليشيا حزب الله وكل المليشيات المذهبية، العراقية والأفغانية، التي زج بها لخوض حربٍ مع النظام الأسدي ضد غالبية السوريين.
كان الأمل يحدونا في كل مناسبة، تستدعي تغيراً في بنية النظام العربي، واستجابة فاعلة
وظنّ رجل الشارع العربي أن مهمة الجامعة لم تعد محصورة على بقائها مجمعاً أو محفلاً لقادة الدول والأنظمة العربية فقط، بل باتت تحسب حساباً لما يجري للشعوب العربية أيضاً، باتخاذها موقفاً حازماً وصارماً حيال ممارسات النظام الحاكم في ليبيا ضد المدنيين، وقرارها تعليق عضوية ليبيا في الجامعة، إلى حين توقف قتل أبناء الشعب الليبي، ثم ساهم طلبها من مجلس الأمن الدولي اتخاذ الإجراءات المناسبة لحماية المدنيين الليبيين في دفع التحركات الدولية، فأصدر المجلس قراراً بفرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا، الأمر الذي شكل سابقةً في تاريخ جامعة الدول العربية منذ نشأتها.
وبدا للوهلة الأولى أن قرار جامعة الدول العربية بالوقوف مع الشعب الليبي جاء كي يدشن بداية مرحلة جديدة في تاريخ هذه المنظمة، تنسجم مع التغيرات والتحولات الكبيرة التي تشهدها دول عربية عديدة، وبما يفضي إلى تشكل نظام عربي وإقليمي مختلف عن سابقه، لكن موقفها من الثورات في كل من سورية واليمن والبحرين بدّد ذلك كله، وأعاد الجامعة إلى سابق عهدها.
وكشفت الثورات العربية مدى العجز والخلل الكبيريْن اللذيْن تعاني منهما الجامعة، بوصفها منظمة مفصلة على قياس الأنظمة الاستبدادية، وليست منظمةً تلبي تطلعات الشعوب العربية.
ويرجع موقف الدول العربية، المنقسم حيال الثورات والانتفاضات إلى طبيعة الأنظمة الاستبدادية الحاكمة في غالبيتها، وعدم رغبتها في اتخاذ مواقف، يمكن أن ترتدّ عليها فيما بعد، وإلى اهتمام كل نظام عربي بلجم التحركات الاحتجاجية الداخلية في كل بلد وإسكاتها، إلى جانب تخوفه من امتداد التداعيات والإرهاصات السياسية والاجتماعية التي يمكن أن تطاوله، وتطاول معه دول المنطقة.
ولما كانت المؤسسات تنشأ عادة في سياق تاريخي معين، حيث تلعب القوى الأساسية وتداخلاتها الدور الأكبر في تحديد طبيعتها وأهدافها ومسارها، فإن نشأة جامعة الدول العربية في 1945 حملت أسباب ومقومات عجزها واختلافها. فهي قامت، من جهة أولى، على احترام سيادة كل دولة عربية وحمايتها. ومن جهةٍ ثانية، وضعت من بين أهم أهدافها تقوية العلاقات العربية والتعاون العربي، حسبما ورد في المادة الثانية من ميثاقها التأسيسي. لكنها مع ذلك شكلت، على المستويين الحقوقي والقانوني، مفصلاً في عملية الانتقال من البنى الوطنية إلى نظيرتها القومية. وتبيّن من مسيرتها، من لحظة التأسيس إلى اليوم، أنها كانت ميداناً للخيبات والمساومات والتجارب المحدودة، وتحولت إلى مجرد هيئة بيروقراطية، تدور حول نفسها، وتعيد إنتاج حالات التردي والارتكاس والهزائم العربية.
وكان الأمل يحدو عرباً كثيرين في أن تجد الالتزامات والتعهدات التي تتخذها القمم العربية طريقها إلى حيز التطبيق الواقعي، لكنها ذهبت في مهب الهياكل السياسية والاقتصادية التي ورّثها الاستعمار لنموذج الدولة العربية، وكثيراً ما كانت توجهات الدول ومصالحها مرهونة بمصالح نخبها الحاكمة التي آثرت التباعد والتناقض على التكامل والتعاون بين مختلف البلدان العربية. وعلى امتداد أكثر من سبعة عقود، لم يحدث أي تقدم جوهري، أو بنيوي، بين الدول العربية، بل نمت دعوات الاكتفاء الذاتي، اقتصادياً، والاعتماد على العلاقات القوية مع الدول الغربية، بل والتحالف معها عسكرياً واقتصادياً، كما نمت سياسات إقليمية ومحاور عدة، وعمل ذلك كله على إضعاف العمل العربي المشترك.
وفي أيامنا هذه، وبعد انتقال الأمانة العامة إلى أحمد أبو الغيط، فإن مستقبل جامعة الدول العربية ودورها، سينصب على مواجهة ما تحمله الثورات والانتفاضات العربية من متغيرات وتطورات، وعلى تقوية الارتكاس والارتداد، بغية وأد الحلم في تحويل الجامعة إلى بيت للشعوب العربية، وإبقائها بيتاً للحكام والقادة العرب، وهي، في مطلق الأحوال، لم تكن في أي يوم "بيت العرب"، حسبما اصطلح على تسميتها.