28 أكتوبر 2024
أبعد من كارثة قطار
كانت أجساد الضحايا محنطة بعد الاحتراق، حاول بعضهم الفرار من الموت حرقا من خلال أبواب القطار، وانحشر آخرون في الشبابيك. كان مشهدا قاسيا، وما زال في الذاكرة، منذ فبراير/ شباط 2002. قطار الصعيد يحترق، لم تكن لشبكة الإنترنت قدرتها الفائقة على نقل الأحداث بشكل مباشر وتفاعلي. كنا نعتمد على المدوّنات ومجموعات بريدية، اعتبرها رفاقنا القدامى تطوّرا سحريا، أضاف إلى قدرة الشعوب على المعرفة من خلال وسائل الإعلام غير الحكومية التي أوجدت مساحات جديدة تبين عجز إعلام نظام يوليو في مصر، الذي ورثه حسني مبارك، في تزييف الوقائع أو التهوين منها.
خلال تلك السنوات، استطاع بعض الشباب أن يلتقوا مع أجيال أخرى، انتهت القطيعة النسبية بين الأجيال، قلّت مساحات التهميش لمن هم خارج العاصمة، تجمع المهتمون بالسياسة من مناطق عدة من دون ضرورة الالتقاء فى مركز الفعل السياسي في القاهرة. وجدنا خطوط تقاطع وتعاون جيلي وجغرافي ومعرفي وأيدلوجي، انتعشت الذاكرة الجمعية.
نهضت حركة الاحتجاج، منذ بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وأضافت إليها كوارث النظام محطات دفع وتأكيد بأن الاحتجاج ضرورة موضوعية. مع كل كارثة جديدة كان الشعب يختزن ويسجل صور إخفاقات النظام وكوارثه، بدايةً من حالات التعذيب المتكرّرة، وحوادث القطارات، وقبلها حوادث الإرهاب.
كان الجميع يتابع تهالك الخدمات، سقوط البيوت على رؤوس أصحابها، تهجير الفلاحين من
أراضيهم، إزالة المناطق العشوائية المتميزة والقريبة من وسط القاهرة، حريق منازل أهالي قلعة الكبش، ثم سقوط صخرة الدويقة على سكانها، وتحوّل المنطقة إلى مقبرةٍ جماعيةٍ لما يزيد عن مائة رجال ونساء وأطفال، لم تهتم الحكومة بما يكفى لإنقاذهم، ولم تضع بعد الكارثة حتى لافتةً على محيط المقبرة الجماعية التى شكلتها الصخرة بعد سقوطها على المنازل، كانت رائحة الموت تغطي منطقة منشية ناصر بالقرب من صخرة دفن فيها مواطنون أحياء، سبقت كارثة "الدويقة" صرخات موتى "عبّارة السلام" التي غرقت بمن فيها.
قلة من المتظاهرين كانوا يحاربون طواحين الهواء، وهم يتظاهرون ضد حكومات الموت، والتعذيب والنهب والاستغلال. ولكن كان هناك ملايين يراقبون ما يحدث، وتتراكم لديهم الذكريات والأحاسيس المشتركة التي لا تعرف طريقها إلى التعبير.
فاصل من الألم يُضاف إلى الذاكرة الجمعية مع الحادثة المروّعة لاحتراق أجساد أخرى فى قطار رمسيس في قلب القاهرة، ليست خطوط قطارات مصر الأقدم تاريخيا، ولكنها أيضا الأكثر بؤسا وقتلا، يتجاوز الضحايا فيها سنويا ألف قتيل، جاء الحادث صادما، ودالا على تراكم الفشل والإخفاق، وتطبيق أولويات تنموية معكوسة، تستبدل خطط التنمية الضرورية ببناء مشاريع إسمنتية بمئات المليارات يُراد توظيفها ونسبها لمن بناها، بينما تحتاج مصر خططا بديلة عنوانها احتياجات البشر، لا الأحجار، ووسائل نقل وخدمات إلى أغلبية المواطنين، لا مدن مسوّرة معزولة لنخب محدودة.
تقف مصر اليوم حزينة، مرتبكة، وخائفة، يعتصرها الألم على شهداء يتساقطون سنويا في
حوادث وسائل النقل، بمعدلات تزيد عن ضحايا الحروب، خصوصا لو أضفنا إلى جانب ضحايا القطارات ضحايا باقي قطاعات النقل.
ثمّة علاقاتٌ متشابكةٌ ما بين الذاكرة الجمعية بما تشتمل عليها من انكسارات وانتصارات في الحراك الاحتجاجي، فشعوب كثيرة استفاقت على أوضاعها الكارثية لتطالب بالتغيير. ولا حاجة هنا للتذكير بكتاباتٍ مهمة في هذا الإطار من فلاسفة وعلماء فى مجالات التاريخ والسياسة والأنثروبولوجيا، فكلنا شركاء في الذاكرة الجمعية للشعوب، ونتشارك أثرها علينا كأفراد، خصوصا مع التقدّم التقني الذي أتاح لنا نقل الأحداث وتسجيلها والتفاعل معها. ولعل حادثة احتراق مواطنين مصريين في محطة قطار رمسيس كانت تجسيدا لحالة تشاركية من الحزن والغضب، وهذه المشاعر المشتركة والإحساس الجمعي بثقل الكارثة هي ما استدعت سؤال ما العمل؟ وهل هناك إمكانية للتغير؟
حب الحياة ومغادرة الألم ومواجهة الكوارث والمخاطر دليل حيوية المجتمعات، ورغبتها فى العيش الكريم المشترك. هذا ما نراه في عدة دول عربية، تخوض حراكا متنوع المستويات، يتقاطع، فى شعاراته ومطالبه، ضد سلطات متشابهة في سياساتها، حراك يتجاوز الضغوط، والمخاوف، ومحاولات تزييف الوعي التي تعرّضت لها الشعوب، خصوصا بعد الموجة الأولى من انتفاضة الشعوب العربية في مصر وتونس وليبيا وسورية واليمين. اليوم ينتفض شعبا الجزائر والسودان، ونشاهد وقائع الاحتجاج بشكل مباشر، بل ويتضامن المحتجون في البلدين مع الشعب المصري، ويقدمون التعازي لشهداء قطار القاهرة، ولسان حالهم يقولون: نحن معكم.
مع ذكرى ثورة يناير، ظهرت رغبة لاستعادة لحظات الانتصار على سلطة مبارك، وربما حمل
الاحتفاء تعبيرا عن التفاؤل والثقة في النفس، ورغبةً في استعادة مساحات الحرية والتعبير. كان الاحتفاء تعبيرا عن بداية مغادرة الخوف، والرغبة في التجمع، وتشارك الذكريات، استعادة للتاريخ القريب، وأيضا التذكير بحالة الثقة في النفس، والقدرة على الفعل المشترك. تلا الاحتفاء بذكرى ثورة يناير إظهار قطاعات عديدة تضامنها مع تسعة شباب تم إعدامهم بتهمة اغتيال النائب العام، على الرغم من أن المتهمين أعلنوا، أمام المحكمة، أن اعترافاتهم تمت تحت التعذيب، ما أثار التعاطف معهم بجانب إعلانات متكرّرة من الصحافة بتصفية المتورطين في اغتيال النائب العام أكثر من مرة.
جسّدت حادثة قطار محطة رمسيس أخيرا حالة عامة من التضامن والتعاطف مع الضحايا، وطرحت بشكل واسع أسئلة متكرّرة عن بنية النظام وسياساته وأولويات التنمية، فكانت أغلب ردود الأفعال أشبه بمحاكمة لسياسات وإدارة تقتل، وإدانة النظام بوصفه المتهم الرئيسي.
مرّت مصر بسلسلة ممتدة من الوقائع المؤلمة، تجعل المجتمع يقف ليتساءل عن نتائج سياسات النظام: هل نجح في تحسين أحوال المجتمع كما وعد؟ تكون الصدمات أحيانا، وعلى الرغم من ألمها، إحدى أدوات الإفاقة، وتشكل خبرات المعاناة والألم المتراكمة وعيا جمعيا. تلك المشاعر ليست مؤقتة، بل محفورة ومحفوظة فى الذاكرة الجمعية، وتقوم بدورها وهي في حالة صيرورة، وسيتم استدعاؤها مستقبلا، كما حدث من قبل، حين توفرت شروط الاستدعاء والتعبئة.
خلال تلك السنوات، استطاع بعض الشباب أن يلتقوا مع أجيال أخرى، انتهت القطيعة النسبية بين الأجيال، قلّت مساحات التهميش لمن هم خارج العاصمة، تجمع المهتمون بالسياسة من مناطق عدة من دون ضرورة الالتقاء فى مركز الفعل السياسي في القاهرة. وجدنا خطوط تقاطع وتعاون جيلي وجغرافي ومعرفي وأيدلوجي، انتعشت الذاكرة الجمعية.
نهضت حركة الاحتجاج، منذ بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وأضافت إليها كوارث النظام محطات دفع وتأكيد بأن الاحتجاج ضرورة موضوعية. مع كل كارثة جديدة كان الشعب يختزن ويسجل صور إخفاقات النظام وكوارثه، بدايةً من حالات التعذيب المتكرّرة، وحوادث القطارات، وقبلها حوادث الإرهاب.
كان الجميع يتابع تهالك الخدمات، سقوط البيوت على رؤوس أصحابها، تهجير الفلاحين من
قلة من المتظاهرين كانوا يحاربون طواحين الهواء، وهم يتظاهرون ضد حكومات الموت، والتعذيب والنهب والاستغلال. ولكن كان هناك ملايين يراقبون ما يحدث، وتتراكم لديهم الذكريات والأحاسيس المشتركة التي لا تعرف طريقها إلى التعبير.
فاصل من الألم يُضاف إلى الذاكرة الجمعية مع الحادثة المروّعة لاحتراق أجساد أخرى فى قطار رمسيس في قلب القاهرة، ليست خطوط قطارات مصر الأقدم تاريخيا، ولكنها أيضا الأكثر بؤسا وقتلا، يتجاوز الضحايا فيها سنويا ألف قتيل، جاء الحادث صادما، ودالا على تراكم الفشل والإخفاق، وتطبيق أولويات تنموية معكوسة، تستبدل خطط التنمية الضرورية ببناء مشاريع إسمنتية بمئات المليارات يُراد توظيفها ونسبها لمن بناها، بينما تحتاج مصر خططا بديلة عنوانها احتياجات البشر، لا الأحجار، ووسائل نقل وخدمات إلى أغلبية المواطنين، لا مدن مسوّرة معزولة لنخب محدودة.
تقف مصر اليوم حزينة، مرتبكة، وخائفة، يعتصرها الألم على شهداء يتساقطون سنويا في
ثمّة علاقاتٌ متشابكةٌ ما بين الذاكرة الجمعية بما تشتمل عليها من انكسارات وانتصارات في الحراك الاحتجاجي، فشعوب كثيرة استفاقت على أوضاعها الكارثية لتطالب بالتغيير. ولا حاجة هنا للتذكير بكتاباتٍ مهمة في هذا الإطار من فلاسفة وعلماء فى مجالات التاريخ والسياسة والأنثروبولوجيا، فكلنا شركاء في الذاكرة الجمعية للشعوب، ونتشارك أثرها علينا كأفراد، خصوصا مع التقدّم التقني الذي أتاح لنا نقل الأحداث وتسجيلها والتفاعل معها. ولعل حادثة احتراق مواطنين مصريين في محطة قطار رمسيس كانت تجسيدا لحالة تشاركية من الحزن والغضب، وهذه المشاعر المشتركة والإحساس الجمعي بثقل الكارثة هي ما استدعت سؤال ما العمل؟ وهل هناك إمكانية للتغير؟
حب الحياة ومغادرة الألم ومواجهة الكوارث والمخاطر دليل حيوية المجتمعات، ورغبتها فى العيش الكريم المشترك. هذا ما نراه في عدة دول عربية، تخوض حراكا متنوع المستويات، يتقاطع، فى شعاراته ومطالبه، ضد سلطات متشابهة في سياساتها، حراك يتجاوز الضغوط، والمخاوف، ومحاولات تزييف الوعي التي تعرّضت لها الشعوب، خصوصا بعد الموجة الأولى من انتفاضة الشعوب العربية في مصر وتونس وليبيا وسورية واليمين. اليوم ينتفض شعبا الجزائر والسودان، ونشاهد وقائع الاحتجاج بشكل مباشر، بل ويتضامن المحتجون في البلدين مع الشعب المصري، ويقدمون التعازي لشهداء قطار القاهرة، ولسان حالهم يقولون: نحن معكم.
مع ذكرى ثورة يناير، ظهرت رغبة لاستعادة لحظات الانتصار على سلطة مبارك، وربما حمل
جسّدت حادثة قطار محطة رمسيس أخيرا حالة عامة من التضامن والتعاطف مع الضحايا، وطرحت بشكل واسع أسئلة متكرّرة عن بنية النظام وسياساته وأولويات التنمية، فكانت أغلب ردود الأفعال أشبه بمحاكمة لسياسات وإدارة تقتل، وإدانة النظام بوصفه المتهم الرئيسي.
مرّت مصر بسلسلة ممتدة من الوقائع المؤلمة، تجعل المجتمع يقف ليتساءل عن نتائج سياسات النظام: هل نجح في تحسين أحوال المجتمع كما وعد؟ تكون الصدمات أحيانا، وعلى الرغم من ألمها، إحدى أدوات الإفاقة، وتشكل خبرات المعاناة والألم المتراكمة وعيا جمعيا. تلك المشاعر ليست مؤقتة، بل محفورة ومحفوظة فى الذاكرة الجمعية، وتقوم بدورها وهي في حالة صيرورة، وسيتم استدعاؤها مستقبلا، كما حدث من قبل، حين توفرت شروط الاستدعاء والتعبئة.