08 نوفمبر 2024
أبعد من جدل الإرث في تونس
يُعيد الجدل الذي تشهده تونس، بشأن المساواة في الإرث بين الجنسين، إلى الواجهة التوترات البنيوية الكبرى التي تخترق مجتمعاتنا العربية، وتُنهكها على أكثر من صعيد، خصوصا التي ترتبط بقضايا الدين والهوية والتراث. وإذا كان المخزون المدني النسبي الذي تمتلكه تونس، والمناخُ الديمقراطي الذي تعيشه، قد سمحا بتقدّم النقاش بشأن بعض هذه القضايا الشائكة، إلا أن ذلك لا ينفي وجود قدر من المجازفة في هذا الصدد.
يحيل تقريرُ لجنة الحريات الفردية والمساواة على قضيةٍ ما فتئت تثير النقاش، وتتعلّق بدور المدخل القانوني والتشريعي في تحديث المجتمع، وحل بعض مشكلاته. وعلى ما يتسم به هذا المدخل من نجاعةٍ وفاعليةٍ في بعض الأحيان، إلا أن الأمر يختلف في القضايا السالفة الذكر، والتي يتطلب حلُّها وضعَها في سياقها الثقافي والوجداني والاجتماعي العام.
إذا كانت المجتمعات العربية تشترك في تطلعها إلى الحرية والديمقراطية وسيادة القانون والقضاء على الفساد، إلا أنها لا تزال منقسمةً إزاء قضايا كثيرة، يمثل الدين والتراث والهوية والمرأة أهمها. إن تقريرا أو تشريعا، كيفما كانت أهميته، لا يمكن أن يُحدث نقلةً نوعيةً في التعاطي مع هذه القضايا وإعادة استيعابها ضمن رؤية مغايرة، من دون أن يكون مسنودا بقوة دفعٍ نابعةٍ من المجتمع، فمن شأن الانخراط في عملية تحديث مجتمعية واسعة أن يخفّف من حدّة الانقسام الذي تشهده مجتمعاتنا إزاء هذه القضايا، بمعنى أن حل الأخيرة، والتوصل إلى توافق واسع بشأنها يرتبط بالتطور الاجتماعي والثقافي المتدرّج والهادئ.
يمثل التصلب الفكري والإيديولوجي، وغيابُ ثقافة الحوار والتسامح واحترام الرأي الآخر، أبرز الخصائص الثقافية التي تتسم بها مجتمعاتنا. وإذا كان ذلك يرتبط، في جانبٍ منه، بالتخلف التاريخي العام الذي تعاني منه، فإنه يرتبط، أيضا، بالنخب السياسية العربية، على اختلاف تشكيلاتها، سواء التي تسلمت السلطة على امتداد القرن الفائت، أو التي ارتبطت بمواقع المعارضة. لا ينفي تباين المرجعيات الفكرية والسياسية لهذه النخب اشتراكها في توظيف الدين في خطابها السياسي. وقد كان لذلك دور أساسي في بناء ثقافة اجتماعية وسياسية، تقوم على الوثوقية، ونبذ الآخر وانعدام التسامح.
إن اعتراض قطاع واسع من المجتمع التونسي على خطاب الرئيس الباجي قايد السبسي، أخيرا، والذي اقترح فيه على البرلمان إقرار المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، يعبر عن التوترات الخطيرة الكامنة في مجتمعاتنا، وهي توتراتٌ تمت تغذيتها عقودا طويلة، من خلال غياب رؤية تحديثية واضحة وشاملة، يُشكل التعليم والمدنيةُ أبرز مداخلها.
لم تكن نخبنا يوما تحديثيةً، بقدر ما كانت إصلاحية، وشتان بين التحديث والإصلاح. يتطلب التحديث رؤية اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية متكاملة، تنتصر للمستقبل، وتحدّ من امتداد الماضي في تدبير إكراهات الحاضر.
استدعاءُ المؤيدين للرئيس السبسي الإرثَ البورقيبي في قضية المرأة ليس إلا صورةً من هذه الانتقائية الإصلاحية، فبورقيبة لا يمكن اعتباره نموذجا تحديثيا، لأنه ببساطة لم يخرج، طوال مدة حكمه الطويلة، عن المنظومة السياسية العربية التقليدية، بكل أعطابها البنيوية. وحتى حينما أقرّ مجلة الأحوال الشخصية، فإنه ما كان ليقوم بخطوته من دون توافق مع الأوساط الدينية واستشارة رموزها، هذا فضلا عن السياق التاريخي والثقافي الذي كان يسمح آنذاك (1956) بتلك الخطوة الجريئة.
الانتقائية، والقفز على الحقائق المجتمعية، وتوظيف الخلاف بشأن هذه القضايا في تغذية الاستقطابات الفكرية والإيديولوجية، من شأن ذلك كله أن يشكل عنصر إعاقة آخر أمام الديمقراطية التونسية التي قطعت أشواطا لا يُستهان بها في ترسيخ مؤسّساتها وهياكلها.
يتطلب الانحيازُ لخيار الحداثة انخراط مختلف قوى المجتمع في حوار مفتوح، تشتبك فيه الاجتهادات الفكرية والفقهية، خصوصا التي لها صلة بقضايا حسّاسة، بما يسهم، مع مرور الوقت، في تحول تدريجي للذهنيات، وأنماط التفكير والوعي والسلوك، وتطورِ النقاش العمومي، وبالتالي التوصل إلى توافقاتٍ مجتمعيةٍ كبرى، تعيد بناء العلاقة بين خطابي الكونية والخصوصية، وتمهد لإصلاح ديني هادئ من دون تكاليف كبيرة.
الفكر الإسلامي في حاجة ماسّة إلى ثورة شاملة، تكتسح مختلف مباحثه، وتعيد صياغة أسئلته وقضاياه الجوهرية، في ضوء المستجدات الحاصلة، وجزءٌ من أوراق هذه الثورة بيد النخب الحاكمة، بتوقفها عن تسخير الدين وتوظيفه في الحياة السياسية، وإقامة نظام تربوي ينمّي الحسّ النقدي، وينتصر لقيم الحرية والتنوير، وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى، وجعل الديمقراطية خيارا مجتمعيا، بما يفضي، بالتالي، إلى بناء فضاء عمومي، تتفاعل فيه، بإيجابية، مختلف القراءات والمواقف والرؤى.
قد يكون ما يحدث في تونس عينةً لحالة سياسية عربية عامة. يتعلق الأمر بنقل الصراع السياسي إلى أعماق المجتمع، بغرض خلط الأوراق وإرباك الخصم (الإسلامي)، وإحراجه أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، مع استثمارٍ جيّد للخطاب النسوي، هذا في الوقت الذي لم تُنتج فيه التنظيمات والأحزاب العربية التي تصنف نفسها ليبرالية وعلمانية ويسارية، اجتهادات ذات
قيمة فيما يخص قضايا المرأة. بل لا نجد في معظمها تمثيلية وازنة للنساء داخل هياكلها ومؤسساتها. كذلك الأمر بالنسبة للأحزاب الإسلامية التي لم تُعر يوما أهمية للتأصيل الفكري لموقفها السياسي، المرتبط بالقضايا نفسها، ولم تُشجع الأوساط الفكرية الإسلامية على القيام بمراجعات كبرى، تُسهم في إعادة بناء الوعي العربي والإسلامي، وفق مستجدّات العصر وإكراهاته.
هذا يعني أن الاجتماع السياسي العربي المعاصر من الهشاشة بحيث يصعب عليه أن يتحمّل، على الأقل حاليا، تبعات الخوض في قضايا عقدية حساسة، من خلال نخب سياسية هشّة وغير مؤهلة، بالمرّة، للانعراج بالنقاش العمومي في اتجاه توافقات اجتماعية وثقافية جديدة.
لم يتم إقرار حقوق المرأة في الغرب إلا بعد عقود من المخاض الفكري والسياسي والاجتماعي، وتكفي الإشارة إلى أن المرأة الفرنسية لم تنل حقها في التصويت إلا سنة 1944، هذا في الوقت الذي كانت فيه فرنسا محور معظم التغيرات المفصلية التي عرفتها أوروبا خلال القرنين الفائتين. بمعنى أن إقرار هذه الحق، وغيره من الحقوق، اندرج في سياق مجتمعي ساهمت فيه كل القوى، عبر صراعات وتدافعات كانت فيها الصدارةُ، في البداية، لقضايا الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، قبل أن تلتحم بمختلف مجالات الحياة.
تعاني المرأة العربية هضما صارخا في حقوقها. وعلى الرغم من أهمية البعد القانوني في الحدّ من ذلك، إلا أن حل المشكلة النسوية في عالمنا العربي يتطلب ثورة ثقافية وتربوية واجتماعية وسياسية، تساهم فيها مختلف قوى المجتمع، ضمن أفقٍ ينحاز للحفاظ على السلم الأهلي والاجتماعي.
يحيل تقريرُ لجنة الحريات الفردية والمساواة على قضيةٍ ما فتئت تثير النقاش، وتتعلّق بدور المدخل القانوني والتشريعي في تحديث المجتمع، وحل بعض مشكلاته. وعلى ما يتسم به هذا المدخل من نجاعةٍ وفاعليةٍ في بعض الأحيان، إلا أن الأمر يختلف في القضايا السالفة الذكر، والتي يتطلب حلُّها وضعَها في سياقها الثقافي والوجداني والاجتماعي العام.
إذا كانت المجتمعات العربية تشترك في تطلعها إلى الحرية والديمقراطية وسيادة القانون والقضاء على الفساد، إلا أنها لا تزال منقسمةً إزاء قضايا كثيرة، يمثل الدين والتراث والهوية والمرأة أهمها. إن تقريرا أو تشريعا، كيفما كانت أهميته، لا يمكن أن يُحدث نقلةً نوعيةً في التعاطي مع هذه القضايا وإعادة استيعابها ضمن رؤية مغايرة، من دون أن يكون مسنودا بقوة دفعٍ نابعةٍ من المجتمع، فمن شأن الانخراط في عملية تحديث مجتمعية واسعة أن يخفّف من حدّة الانقسام الذي تشهده مجتمعاتنا إزاء هذه القضايا، بمعنى أن حل الأخيرة، والتوصل إلى توافق واسع بشأنها يرتبط بالتطور الاجتماعي والثقافي المتدرّج والهادئ.
يمثل التصلب الفكري والإيديولوجي، وغيابُ ثقافة الحوار والتسامح واحترام الرأي الآخر، أبرز الخصائص الثقافية التي تتسم بها مجتمعاتنا. وإذا كان ذلك يرتبط، في جانبٍ منه، بالتخلف التاريخي العام الذي تعاني منه، فإنه يرتبط، أيضا، بالنخب السياسية العربية، على اختلاف تشكيلاتها، سواء التي تسلمت السلطة على امتداد القرن الفائت، أو التي ارتبطت بمواقع المعارضة. لا ينفي تباين المرجعيات الفكرية والسياسية لهذه النخب اشتراكها في توظيف الدين في خطابها السياسي. وقد كان لذلك دور أساسي في بناء ثقافة اجتماعية وسياسية، تقوم على الوثوقية، ونبذ الآخر وانعدام التسامح.
إن اعتراض قطاع واسع من المجتمع التونسي على خطاب الرئيس الباجي قايد السبسي، أخيرا، والذي اقترح فيه على البرلمان إقرار المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، يعبر عن التوترات الخطيرة الكامنة في مجتمعاتنا، وهي توتراتٌ تمت تغذيتها عقودا طويلة، من خلال غياب رؤية تحديثية واضحة وشاملة، يُشكل التعليم والمدنيةُ أبرز مداخلها.
لم تكن نخبنا يوما تحديثيةً، بقدر ما كانت إصلاحية، وشتان بين التحديث والإصلاح. يتطلب التحديث رؤية اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية متكاملة، تنتصر للمستقبل، وتحدّ من امتداد الماضي في تدبير إكراهات الحاضر.
استدعاءُ المؤيدين للرئيس السبسي الإرثَ البورقيبي في قضية المرأة ليس إلا صورةً من هذه الانتقائية الإصلاحية، فبورقيبة لا يمكن اعتباره نموذجا تحديثيا، لأنه ببساطة لم يخرج، طوال مدة حكمه الطويلة، عن المنظومة السياسية العربية التقليدية، بكل أعطابها البنيوية. وحتى حينما أقرّ مجلة الأحوال الشخصية، فإنه ما كان ليقوم بخطوته من دون توافق مع الأوساط الدينية واستشارة رموزها، هذا فضلا عن السياق التاريخي والثقافي الذي كان يسمح آنذاك (1956) بتلك الخطوة الجريئة.
الانتقائية، والقفز على الحقائق المجتمعية، وتوظيف الخلاف بشأن هذه القضايا في تغذية الاستقطابات الفكرية والإيديولوجية، من شأن ذلك كله أن يشكل عنصر إعاقة آخر أمام الديمقراطية التونسية التي قطعت أشواطا لا يُستهان بها في ترسيخ مؤسّساتها وهياكلها.
يتطلب الانحيازُ لخيار الحداثة انخراط مختلف قوى المجتمع في حوار مفتوح، تشتبك فيه الاجتهادات الفكرية والفقهية، خصوصا التي لها صلة بقضايا حسّاسة، بما يسهم، مع مرور الوقت، في تحول تدريجي للذهنيات، وأنماط التفكير والوعي والسلوك، وتطورِ النقاش العمومي، وبالتالي التوصل إلى توافقاتٍ مجتمعيةٍ كبرى، تعيد بناء العلاقة بين خطابي الكونية والخصوصية، وتمهد لإصلاح ديني هادئ من دون تكاليف كبيرة.
الفكر الإسلامي في حاجة ماسّة إلى ثورة شاملة، تكتسح مختلف مباحثه، وتعيد صياغة أسئلته وقضاياه الجوهرية، في ضوء المستجدات الحاصلة، وجزءٌ من أوراق هذه الثورة بيد النخب الحاكمة، بتوقفها عن تسخير الدين وتوظيفه في الحياة السياسية، وإقامة نظام تربوي ينمّي الحسّ النقدي، وينتصر لقيم الحرية والتنوير، وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى، وجعل الديمقراطية خيارا مجتمعيا، بما يفضي، بالتالي، إلى بناء فضاء عمومي، تتفاعل فيه، بإيجابية، مختلف القراءات والمواقف والرؤى.
قد يكون ما يحدث في تونس عينةً لحالة سياسية عربية عامة. يتعلق الأمر بنقل الصراع السياسي إلى أعماق المجتمع، بغرض خلط الأوراق وإرباك الخصم (الإسلامي)، وإحراجه أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، مع استثمارٍ جيّد للخطاب النسوي، هذا في الوقت الذي لم تُنتج فيه التنظيمات والأحزاب العربية التي تصنف نفسها ليبرالية وعلمانية ويسارية، اجتهادات ذات
هذا يعني أن الاجتماع السياسي العربي المعاصر من الهشاشة بحيث يصعب عليه أن يتحمّل، على الأقل حاليا، تبعات الخوض في قضايا عقدية حساسة، من خلال نخب سياسية هشّة وغير مؤهلة، بالمرّة، للانعراج بالنقاش العمومي في اتجاه توافقات اجتماعية وثقافية جديدة.
لم يتم إقرار حقوق المرأة في الغرب إلا بعد عقود من المخاض الفكري والسياسي والاجتماعي، وتكفي الإشارة إلى أن المرأة الفرنسية لم تنل حقها في التصويت إلا سنة 1944، هذا في الوقت الذي كانت فيه فرنسا محور معظم التغيرات المفصلية التي عرفتها أوروبا خلال القرنين الفائتين. بمعنى أن إقرار هذه الحق، وغيره من الحقوق، اندرج في سياق مجتمعي ساهمت فيه كل القوى، عبر صراعات وتدافعات كانت فيها الصدارةُ، في البداية، لقضايا الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، قبل أن تلتحم بمختلف مجالات الحياة.
تعاني المرأة العربية هضما صارخا في حقوقها. وعلى الرغم من أهمية البعد القانوني في الحدّ من ذلك، إلا أن حل المشكلة النسوية في عالمنا العربي يتطلب ثورة ثقافية وتربوية واجتماعية وسياسية، تساهم فيها مختلف قوى المجتمع، ضمن أفقٍ ينحاز للحفاظ على السلم الأهلي والاجتماعي.