05 نوفمبر 2024
آن أوان المراجعات الفلسطينية
تحت حسٍّ ثقيل بوطأة المتغيرات الكارثية المتراصفة، بعضها فوق بعض، في مجرى الحالة الفلسطينية المستعصية، وفي ظلال الذكرى الخامسة والعشرين لاتفاق أوسلو المخيّبة للآمال، علت أصوات مثقفين وقادة رأي وكتّاب، وغيرهم من المشتغلين في المجال العام، تدعو إلى ضرورة القيام بمراجعاتٍ نقدية عاجلة، لم يفت أوانها بعد، وطرح أسئلةٍ عميقةٍ مقلقةٍ بشأن مآل التطورات المحتملة، لا تتعلق فقط بمستقبلٍ محفوفٍ بشتى الأخطار المحدقة بحاضر ومستقبل شعبٍ، نصفه تحت الاحتلال ونصفه الآخر في ديار الشتات، وإنما أيضاً بماضي حركة تحرّر وطني يزيد عمرها عن خمسين سنة، نجحت في تحقيق غاياتها أحياناً، وأخفقت مراراً في أكثر الأحيان.
تودّ هذه المطالعة، وهي ليست الأولى من نوعها لكاتب هذه السطور، المتابع عن كثب مسار الأحداث الفلسطينية، أن تمثل صوتاً آخر بين أصوات الداعين إلى إجراء المراجعات النقدية من دون تأخير إضافي، وأن تشكّل، في الوقت ذاته، مساهمة متواضعة في النقاش المفتوح، المقدّر له أن يتسع ويزداد عمقاً في الفترة العصيبة المقبلة، جرّاء تعاظم الوعي العام بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتق الجميع، بمن فيهم ذوو الرأي والمفكرون، الذين يتحمّلون، في كل زمان ومكان، القسط الأكبر من مهمة طرح الأسئلة الموجعة، وتقديم الأجوبة الشافية، حيال ما يواجه شعبهم من مخاطر داهمة، وما يحيط بحاضره من تحدّياتٍ مصيريةٍ هائلة، تماماً على نحو ما تنطق به الحالة الفلسطينية الراهنة.
وأحسب أن عملية المراجعة والتقويم المنشودة، بما تنطوي عليه من نقدٍ ونقدٍ ذاتي ومساءلة، ليس لها جذور ضاربة في موروث الثقافة العربية الإسلامية، وهي ليست من تقاليد الحياة
السياسية المعاصرة في بلادنا التي ابتليت بقادةٍ "معصومين" وحكام دكتاتوريين، وحركاتٍ أصوليةٍ تحتكر الحق والعدل والصواب، الأمر الذي يُثقل بالضرورة الموضوعية على عملية المراجعة في حد ذاتها، ويجعل منها مهمةً شاقة، أشبه ما تكون بمغامرة السباحة ضد تيار نهرٍ جارف، لا يقدر على القيام بها سوى قلة قليلة من المجازفين المهرة، ممن لديهم الاستعداد الكامل لتلقّي سهام التجريح، وتحمّل سوء الفهم، إن لم نقل تهم الخيانة والردّة، وكل ما تجود به قرائح المفعمين بروحٍ قتاليةٍ ضد أي خروجٍ عن النمط السائد والأفكار المعلبة.
إذا كانت عملية المراجعة وإعادة التقويم مسألةً لا مفرّ منها عند كل إخفاق، وواجبة الدفع غبّ الطلب لدى المجتمعات المتقدّمة، تلك التي لا تواجه ما نواجهه، نحن في هذه المنطقة، من معضلاتٍ وجوديةٍ تُرى بالعين المجرّدة، فما بالك بالشعب الفلسطيني وبحركته الوطنية وقادته ومثقفيه، وكل من يقع على كواهلهم كامل نصاب المسؤولية الأخلاقية والضميرية والسياسية، إزاء أخذ زمام المبادرة، لفتح حوار داخلي صريح، بصوتٍ عالٍ وشفافية كاملة، بعد أن انغلقت الدروب أكثر من ذي قبل، وسقطت آمالٌ وأوهامٌ ورهاناتٌ عديدة، وقلّ الحلفاء والأصدقاء، وتضاءلت الخيارات الشحيحة أصلاً، وبات المصير الفلسطيني عرضةً لأهواء مريضة وأخطار مميتة، يصعب تجاهلها بعد الآن.
ذلك أن الليل الفلسطيني الطويل هو اليوم في أشدّ لحظاته سواداً منذ سبعين سنة، بل يبدو بلا نهاية مرئية، وأن المتغيرات المتسارعة في البيئتين، الإقليمية والدولية، المحيطتين بالقضية الوطنية الفلسطينية، تبدو متغيّرات عاصفة، واسعة النطاق وعميقة الغور، تحديداً في هذه الآونة المفتوحة، على احتمالات أشدّ بؤساً مما مرت به هذه القضية منذ النكبة، الأمر الذي لا يستقيم معه الوقوف على مفترقات الطرق طويلاً، والمراوحة على المكان الزلق نفسه إلى ما لا نهاية، والتعلّل بالأمنيات المعلقة في مدارٍ لا تطاوله اليد، خصوصاً بعد أن تجاوزت الهجمة الإسرائيلية الأميركية المنسّقة حداً يُنذر بتصفية القضية من أساسها، ويشطب كل المنجزات الوطنية الجزئية والمتفرقة، المتحققة على مدى عقود مديدة من الكفاح الوطني، بكل أشكاله المتاحة.
قد يكون من غير المفيد، الآن، التوقف ملياً عند أسئلة الماضي المثيرة للسجال من جديد، الباعثة على مزيدٍ من التلاوم الذي لا طائل من ورائه في هذه المرحلة، مثل أين أخطأنا وأين أصبنا، ومن يتحمّل وزر هذا الإخفاق، ومن عليه أن يقدّم كشف الحساب، وما إلى ذلك من أسئلةٍ قد تُخرج النقاش العام عن سياقه المأمول، وتؤدّي إلى توظيف مثل هذا الحوار المفتوح في خدمة أجنداتٍ فئويةٍ وفصائلية، ومن ثمّة العودة إلى المربع رقم واحد، واستهلاك الطاقات الذاتية القليلة في طاحونة الاتهامات والاتهامات المتبادلة، الأمر الذي يتطلّب شدّ الأبصار نحو المستقبل، أي نحو أسئلةٍ موضوعية بديلة، من وزن؛ ماذا نحن فاعلون إزاء استمرار الصراع على سلطةٍ تحت الاحتلال مفرّغة؟ وما العمل بعدما انتهت عملية أوسلو إلى ما انتهت إليه منذ مدة، وتم تقويض العملية السلمية وحل الدولتين، ناهيك عن "تسونامي" صفقة القرن، وما إلى ذلك من أسئلة أخرى صاعقة؟
وليس من شكٍّ في أن هناك تساؤلاتٍ إضافيةً تستحقّ، هي الأخرى، إجراء المراجعة والتقويم، اليوم قبل الغد، بأعلى قدرٍ ممكنٍ من الشجاعة الأدبية والمسؤولية الأخلاقية، مثل؛ ماذا عن اليوم التالي إذا ما تقرّر إنهاء العمل بصيغة أوسلو واتفاق باريس الاقتصادي، وسحب الاعتراف بإسرائيل، والتخلّص من الالتزامات غير المتكافئة؟ وكيف يمكننا تطوير مظاهر الاحتجاجات الموضعية الموسمية، وهل من المُتاح واقعياً رفعها إلى مستوى المقاومة الشعبية الشاملة؟ وهل من الممكن إطلاق انتفاضةٍ جديدةٍ، لا تتسابق فيها الفصائل لتحقيق أجنداتٍ خاصةٍ تخلط الأوراق، وتعيد إلى الأذهان مشاهد انتفاضة الأقصى المسلحة عام 2000 ، تلك التي كانت محصّلتها وبالاً على الشعب الفلسطيني، على العكس تماماً مما كانت عليه نتائج انتفاضة الحجارة المجيدة؟
وفي البال أسئلةٌ أخرى، قد لا تقلّ أهمية، تستدعي بدورها إجراء قسطٍ معقولٍ من النقاش العام، بهدف تقويم ما ينبغي تقويمه بروحٍ من الجدّية، مثل؛ كيف لنا أن نستردّ الألق الذي بدت عليه
مسيرات يوم العودة لدى انطلاقها قبل نحو ستة أشهر، وبدت في حينه واعدةً أكثر بكثير مما هي عليه في هذه الآونة؟ وكيف لنا أن نفعّل منظمة التحرير الفلسطينية، وأن نعتصم فيها بيتاً جامعاً لا بديل له، حتى وإن تلاشت السلطة الوطنية مثلاً؟ وكيف لنا أن نفكّ الحصار الجائر على قطاع غزة بأقل الأثمان السياسية، من غير وضع الحصان أمام العربة، أي إنهاء الانقسام البغيض وتحقيق المصالحة الوطنية، كأسهل بديلٍ ممكن، عن دفع كلفة عالية للاحتلال عبر تحقيق هدنة أو تهدئة طويلة مستعجلة؟
كانت المراجعة الفلسطينية مستحقّة منذ أمد طويل، وواجبة من دون ريب، بل وكانت لازمةً عند كل منعطف كبير من المنعطفات التي مرّت بها القضية المخذولة، كما كان تأجيلها، إن لم نقل تجاهلها، بهذه الذريعة أو تلك، سبباً إضافيا لزيادة المشكلات، ومضاعفة الأعباء التي تبدو في هذه المرحلة أثقل وزناً مما كانت عليه في كل المراحل السابقة، الأمر الذي يتطلب اليوم جهوداً أكبر، وبذل نقاش أعمق، وحمل مسؤوليات ذات تكاليف أعظم، وفوق ذلك التحلّي بحُسن نيةٍ مخلصة، وإرادة طيبةٍ، مصممة على تجاوز الحسابات الصغيرة، والتسامي عن جراحات الماضي السطحية الكثيرة، لعل في خضم مراجعةٍ كهذه، آن أوانها الآن من دون مراء، يتم استنهاض الحالة الفلسطينية من وهدتها العميقة، واستعادة زمام المبادرة، ومن ثمّة التقدم إلى الأمام خطوة نوعية، على طريق طويل، لإرجاع الصراع التاريخي إلى مداره الحقيقي، صراعا من أجل نيل الحرية وانتزاع الاستقلال، بين شعبٍ مناضل، وآخر احتلال على وجه الأرض.
تودّ هذه المطالعة، وهي ليست الأولى من نوعها لكاتب هذه السطور، المتابع عن كثب مسار الأحداث الفلسطينية، أن تمثل صوتاً آخر بين أصوات الداعين إلى إجراء المراجعات النقدية من دون تأخير إضافي، وأن تشكّل، في الوقت ذاته، مساهمة متواضعة في النقاش المفتوح، المقدّر له أن يتسع ويزداد عمقاً في الفترة العصيبة المقبلة، جرّاء تعاظم الوعي العام بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتق الجميع، بمن فيهم ذوو الرأي والمفكرون، الذين يتحمّلون، في كل زمان ومكان، القسط الأكبر من مهمة طرح الأسئلة الموجعة، وتقديم الأجوبة الشافية، حيال ما يواجه شعبهم من مخاطر داهمة، وما يحيط بحاضره من تحدّياتٍ مصيريةٍ هائلة، تماماً على نحو ما تنطق به الحالة الفلسطينية الراهنة.
وأحسب أن عملية المراجعة والتقويم المنشودة، بما تنطوي عليه من نقدٍ ونقدٍ ذاتي ومساءلة، ليس لها جذور ضاربة في موروث الثقافة العربية الإسلامية، وهي ليست من تقاليد الحياة
إذا كانت عملية المراجعة وإعادة التقويم مسألةً لا مفرّ منها عند كل إخفاق، وواجبة الدفع غبّ الطلب لدى المجتمعات المتقدّمة، تلك التي لا تواجه ما نواجهه، نحن في هذه المنطقة، من معضلاتٍ وجوديةٍ تُرى بالعين المجرّدة، فما بالك بالشعب الفلسطيني وبحركته الوطنية وقادته ومثقفيه، وكل من يقع على كواهلهم كامل نصاب المسؤولية الأخلاقية والضميرية والسياسية، إزاء أخذ زمام المبادرة، لفتح حوار داخلي صريح، بصوتٍ عالٍ وشفافية كاملة، بعد أن انغلقت الدروب أكثر من ذي قبل، وسقطت آمالٌ وأوهامٌ ورهاناتٌ عديدة، وقلّ الحلفاء والأصدقاء، وتضاءلت الخيارات الشحيحة أصلاً، وبات المصير الفلسطيني عرضةً لأهواء مريضة وأخطار مميتة، يصعب تجاهلها بعد الآن.
ذلك أن الليل الفلسطيني الطويل هو اليوم في أشدّ لحظاته سواداً منذ سبعين سنة، بل يبدو بلا نهاية مرئية، وأن المتغيرات المتسارعة في البيئتين، الإقليمية والدولية، المحيطتين بالقضية الوطنية الفلسطينية، تبدو متغيّرات عاصفة، واسعة النطاق وعميقة الغور، تحديداً في هذه الآونة المفتوحة، على احتمالات أشدّ بؤساً مما مرت به هذه القضية منذ النكبة، الأمر الذي لا يستقيم معه الوقوف على مفترقات الطرق طويلاً، والمراوحة على المكان الزلق نفسه إلى ما لا نهاية، والتعلّل بالأمنيات المعلقة في مدارٍ لا تطاوله اليد، خصوصاً بعد أن تجاوزت الهجمة الإسرائيلية الأميركية المنسّقة حداً يُنذر بتصفية القضية من أساسها، ويشطب كل المنجزات الوطنية الجزئية والمتفرقة، المتحققة على مدى عقود مديدة من الكفاح الوطني، بكل أشكاله المتاحة.
قد يكون من غير المفيد، الآن، التوقف ملياً عند أسئلة الماضي المثيرة للسجال من جديد، الباعثة على مزيدٍ من التلاوم الذي لا طائل من ورائه في هذه المرحلة، مثل أين أخطأنا وأين أصبنا، ومن يتحمّل وزر هذا الإخفاق، ومن عليه أن يقدّم كشف الحساب، وما إلى ذلك من أسئلةٍ قد تُخرج النقاش العام عن سياقه المأمول، وتؤدّي إلى توظيف مثل هذا الحوار المفتوح في خدمة أجنداتٍ فئويةٍ وفصائلية، ومن ثمّة العودة إلى المربع رقم واحد، واستهلاك الطاقات الذاتية القليلة في طاحونة الاتهامات والاتهامات المتبادلة، الأمر الذي يتطلّب شدّ الأبصار نحو المستقبل، أي نحو أسئلةٍ موضوعية بديلة، من وزن؛ ماذا نحن فاعلون إزاء استمرار الصراع على سلطةٍ تحت الاحتلال مفرّغة؟ وما العمل بعدما انتهت عملية أوسلو إلى ما انتهت إليه منذ مدة، وتم تقويض العملية السلمية وحل الدولتين، ناهيك عن "تسونامي" صفقة القرن، وما إلى ذلك من أسئلة أخرى صاعقة؟
وليس من شكٍّ في أن هناك تساؤلاتٍ إضافيةً تستحقّ، هي الأخرى، إجراء المراجعة والتقويم، اليوم قبل الغد، بأعلى قدرٍ ممكنٍ من الشجاعة الأدبية والمسؤولية الأخلاقية، مثل؛ ماذا عن اليوم التالي إذا ما تقرّر إنهاء العمل بصيغة أوسلو واتفاق باريس الاقتصادي، وسحب الاعتراف بإسرائيل، والتخلّص من الالتزامات غير المتكافئة؟ وكيف يمكننا تطوير مظاهر الاحتجاجات الموضعية الموسمية، وهل من المُتاح واقعياً رفعها إلى مستوى المقاومة الشعبية الشاملة؟ وهل من الممكن إطلاق انتفاضةٍ جديدةٍ، لا تتسابق فيها الفصائل لتحقيق أجنداتٍ خاصةٍ تخلط الأوراق، وتعيد إلى الأذهان مشاهد انتفاضة الأقصى المسلحة عام 2000 ، تلك التي كانت محصّلتها وبالاً على الشعب الفلسطيني، على العكس تماماً مما كانت عليه نتائج انتفاضة الحجارة المجيدة؟
وفي البال أسئلةٌ أخرى، قد لا تقلّ أهمية، تستدعي بدورها إجراء قسطٍ معقولٍ من النقاش العام، بهدف تقويم ما ينبغي تقويمه بروحٍ من الجدّية، مثل؛ كيف لنا أن نستردّ الألق الذي بدت عليه
كانت المراجعة الفلسطينية مستحقّة منذ أمد طويل، وواجبة من دون ريب، بل وكانت لازمةً عند كل منعطف كبير من المنعطفات التي مرّت بها القضية المخذولة، كما كان تأجيلها، إن لم نقل تجاهلها، بهذه الذريعة أو تلك، سبباً إضافيا لزيادة المشكلات، ومضاعفة الأعباء التي تبدو في هذه المرحلة أثقل وزناً مما كانت عليه في كل المراحل السابقة، الأمر الذي يتطلب اليوم جهوداً أكبر، وبذل نقاش أعمق، وحمل مسؤوليات ذات تكاليف أعظم، وفوق ذلك التحلّي بحُسن نيةٍ مخلصة، وإرادة طيبةٍ، مصممة على تجاوز الحسابات الصغيرة، والتسامي عن جراحات الماضي السطحية الكثيرة، لعل في خضم مراجعةٍ كهذه، آن أوانها الآن من دون مراء، يتم استنهاض الحالة الفلسطينية من وهدتها العميقة، واستعادة زمام المبادرة، ومن ثمّة التقدم إلى الأمام خطوة نوعية، على طريق طويل، لإرجاع الصراع التاريخي إلى مداره الحقيقي، صراعا من أجل نيل الحرية وانتزاع الاستقلال، بين شعبٍ مناضل، وآخر احتلال على وجه الأرض.
دلالات
مقالات أخرى
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024