14 نوفمبر 2024
".. وأيامنا كلها كربلاء"
تعليقاً على تغريدةٍ للدكتور عبدالله الغذامي، وردّ موجز مني عليها، كتب الشاعر فهد عافت مقالةَ، ليس لديّ مانع من التوقيع عليها، توافقا مع ما جاء في مجملها على الأقل. كتب الغذامي: "هل رأيتم تسامحاً كتسامح قدمائنا، الشاعر أحمد بن الحسين الكوفي ادّعى النبوّة في بدايته، واكتفوا أن أسموه المتنبّي، وعاش عمره كله بطلاً شعريّاً". أما ردّي الموجز فكان نصاً: "لكنه مات مقتولاً، بسبب تهمةٍ أقلّ من هذه يا أستاذنا". وفي مقاله، خلص فهد عافت إلى أن "الثقافة العربية فيها من قساوة الرفض ما فيها، وهي إن اقترب الأمر من المصالح، أسمت المصالح مبادئ وقيماً، وبدت غليظةً في ضغينتها، لا تعِفّ إلا نادرا". ولم يكن ليبالغ في هذا التصوير القاسي، والذي قد يبدو صادماً لبعضهم ممن درس تاريخاً عربياً مدرسياً، احتفى بالأسماء الخالدة في ثقافة العرب والإسلام، من دون الغوص في نهاياتها الغارقة في الدم، حقيقة ومجازا. فتاريخنا، كما سبق وصاغه نزار قباني، كله محنة، وأيامنا كلها كربلاء، وما زلنا غارقين في الدم الذي جرى أنهاراً وقطعنا قروناً طويلة عن تقدم حضاري وعلمي كنا حريين فيه، نظراً لمقدمات الأمة الناهضة على تاريخٍ ضاربٍ في حضارته، ودين بشّر بالعلم، وأعلى من قيمة العقل في كل آياته ومعطياته. لكن الثقافات المجتمعية لا تقوم على أسسٍ كهذه، بقدر ما تقوم على نتاجاتٍ آنية، غالباً ما تكون رخيصةً وساذجةً، لكنها تتوسّل الدين وهيبته لدى العامة، كي تحصل على مبتغاها. ولا مانع في سبيل هذا أن تعطل التفكير الفردي والجمعي بذلك السلاح الرهيب؛ التكفير.
وهكذا انطوى تحت جناح تهمة التكفير أعلام عرب ومسلمون كبار في الطب واللغة والأدب والبصريات والتصوّف والفقه والعلوم والكيمياء والفيزياء والتاريخ، وتقريبا في كل العلوم التي أصبحنا لاحقا نفاخر بها الأمم والشعوب، وندلل من خلال أسماء تلك الأعلام التي برعت فيها، وبرزت على حيازتنا قصب سبقها.
لقد كفّروا، على سبيل المثال وحسب؛ ابن سينا، والكندي، وأبو حامد الغزالي، والرازي، والخوارزمي، والحسن بن الهيثم، وابن بطوطة، والجاحظ، وابن طفيل، وابن الفارض والمعرّي، والمتنبي، ورابعة العدوية، وأبو حيان التوحيدي، وأبو الفرج الأصفهاني، والسهروردي، وابن المقفع، والحلاج، ولسان الدين بن الخطيب و.. و... والقائمة التي سردت بعض الأسماء الشهيرة فيها من ذاكرتي المتعَبة وحسب، تطول وتطول وتطول، حتى تصل إلى أيامنا الحاضرة، لنجد في سياقها طه حسين وعلي عبد الرازق وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد، وآخرين.
وعلى الرغم من أن التهم كانت متفاوتةً في شدّتها، إلا أن منطلقها التكفيري واحد، ومآلاتها متشابهة، فكثيرون من الأسماء اللامعة المذكورة أعلاه إما قُتلوا، صلبا وتقطيعا وتحريقا وخنقا، أو سُجن، أو لوحق حتى أواخر أيامه، أو ضُيّق عليه في عيشته، أو هُجّر، أو شرد، أو أحرقت كتبه ومؤلفاته أمام ناظريه ووسط حسراته، أو سُكت عنه على مضض، أو فُرّق بينه وبين زوجته، أو أرغم على التراجع عن أفكاره علنا، أو فُضح وشهّر به.
وإذا كانت أقل المآلات قسوة هو التراجع، على الرغم من أنني أراه من زاويةٍ أبعد هو الأقسى، فإن منهم من قطعت بعض أعضاء جسده وشويت أمامه على النار، ثم طلب منه أن يأكلها.. هل تتخيلوا مشهداً كهذا ذكرت كتب التاريخ أنه كان النهاية المحتومة لحياة كاتبٍ بحجم ابن المقفع الذي ترك لنا تراثاً قصصياً، ما زلنا نفاخر به الأمم والشعوب والحضارات باسم كليلة ودمنة؟
حسناً.. لعل الجانب الذي قد يخفف قليلاً من قتامة المشهد، في زاويته الإسلامية العربية، أنه لم يكن إلا نسخةً من واقعٍ تنوعت تجلياته في أمم وشعوب وحضارات وأزمنة أخرى. ولهذا، تقاطعت مع هذه الأسماء اللامعة التي ذهبت ضحية الجهل في أمة العرب والمسلمين أسماء أخرى من ثقافاتٍ أخرى، كغاليليو ونيوتين وديكارت وكوبرنيكس وغيرها، كفّرها العقل الجاهل نفسه! ولعل هذا ما ذهب إليه الغذامي في استدراكه على التغريدة الأولى: "أما تاريخنا فظلّ يتواتر الاسم بدون تحسّس، ولو تشدّد لوقف سلباً من الاسم نفسه والقصص الفردية كثر، ولكن الشاهد ثقافي عام".
وهكذا انطوى تحت جناح تهمة التكفير أعلام عرب ومسلمون كبار في الطب واللغة والأدب والبصريات والتصوّف والفقه والعلوم والكيمياء والفيزياء والتاريخ، وتقريبا في كل العلوم التي أصبحنا لاحقا نفاخر بها الأمم والشعوب، وندلل من خلال أسماء تلك الأعلام التي برعت فيها، وبرزت على حيازتنا قصب سبقها.
لقد كفّروا، على سبيل المثال وحسب؛ ابن سينا، والكندي، وأبو حامد الغزالي، والرازي، والخوارزمي، والحسن بن الهيثم، وابن بطوطة، والجاحظ، وابن طفيل، وابن الفارض والمعرّي، والمتنبي، ورابعة العدوية، وأبو حيان التوحيدي، وأبو الفرج الأصفهاني، والسهروردي، وابن المقفع، والحلاج، ولسان الدين بن الخطيب و.. و... والقائمة التي سردت بعض الأسماء الشهيرة فيها من ذاكرتي المتعَبة وحسب، تطول وتطول وتطول، حتى تصل إلى أيامنا الحاضرة، لنجد في سياقها طه حسين وعلي عبد الرازق وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد، وآخرين.
وعلى الرغم من أن التهم كانت متفاوتةً في شدّتها، إلا أن منطلقها التكفيري واحد، ومآلاتها متشابهة، فكثيرون من الأسماء اللامعة المذكورة أعلاه إما قُتلوا، صلبا وتقطيعا وتحريقا وخنقا، أو سُجن، أو لوحق حتى أواخر أيامه، أو ضُيّق عليه في عيشته، أو هُجّر، أو شرد، أو أحرقت كتبه ومؤلفاته أمام ناظريه ووسط حسراته، أو سُكت عنه على مضض، أو فُرّق بينه وبين زوجته، أو أرغم على التراجع عن أفكاره علنا، أو فُضح وشهّر به.
وإذا كانت أقل المآلات قسوة هو التراجع، على الرغم من أنني أراه من زاويةٍ أبعد هو الأقسى، فإن منهم من قطعت بعض أعضاء جسده وشويت أمامه على النار، ثم طلب منه أن يأكلها.. هل تتخيلوا مشهداً كهذا ذكرت كتب التاريخ أنه كان النهاية المحتومة لحياة كاتبٍ بحجم ابن المقفع الذي ترك لنا تراثاً قصصياً، ما زلنا نفاخر به الأمم والشعوب والحضارات باسم كليلة ودمنة؟
حسناً.. لعل الجانب الذي قد يخفف قليلاً من قتامة المشهد، في زاويته الإسلامية العربية، أنه لم يكن إلا نسخةً من واقعٍ تنوعت تجلياته في أمم وشعوب وحضارات وأزمنة أخرى. ولهذا، تقاطعت مع هذه الأسماء اللامعة التي ذهبت ضحية الجهل في أمة العرب والمسلمين أسماء أخرى من ثقافاتٍ أخرى، كغاليليو ونيوتين وديكارت وكوبرنيكس وغيرها، كفّرها العقل الجاهل نفسه! ولعل هذا ما ذهب إليه الغذامي في استدراكه على التغريدة الأولى: "أما تاريخنا فظلّ يتواتر الاسم بدون تحسّس، ولو تشدّد لوقف سلباً من الاسم نفسه والقصص الفردية كثر، ولكن الشاهد ثقافي عام".