يتردّد اسم محمد بن زايد، الذي يشغل رسميًّا منصبي وليّ عهد أبوظبي، ونائب القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، كثيرًا بين مئات آلاف الوثائق السرّية المنشورة في موقع التسريبات "ويكيليكس"، وفي فترات متباعدة.
ويمكن أن نستدلّ من أحاديث الغرف المغلقة تلك أن سياسة التحريض التي حرّكت الثورات المضادّة في الأقطار العربيّة المنتفضة، وأفضت أخيرًا إلى مقاطعة قطر وفرض الحصار عليها، هي راسخة الجذور لدى بن زايد، كما أن عداءه للديمقراطيّة، ولحركات المقاومة الفلسطينيّة، وقابليّته للتطبيع مع إسرائيل، هي قناعات قديمة متأصلة لديه منذ السنوات الأولى للألفيّة الجديدة، حينما بدأ أبناء الأب المؤسس، زايد بن سلطان آل نهيان، يمسكون بزمام السلطة في البلاد. وبعد التسريبات التي كشفت موقفه من المملكة العربية السعودية، ها هو موقفه الزائف من حرية الإعلام من خلال تحريضه الواضح على قناة "الجزيرة" والعاملين فيها:
الخصومة القديمة بين بن زايد والجزيرة
كان غلق قناة الجزيرة، بكلّ إرثها الإعلامي الضخم، أحد بنود قائمة المطالب الـ13 التي قدّمتها دول الحصار إلى قطر. تكشف الوثائق المسرّبة أنّ هذا المطلب لم يكن وليد الظرف الراهن، وأنه، بالأحرى، كان حسابًا قديمًا بالنسبة لمحمد بن زايد.
خصومة بن زايد مع الجزيرة وصلت إلى ما هو أبعد من المطالبة بغلقها، وبلغت حدّ التحريض على قصفها إبّان غزو العراق. وجد بن زايد في تذمّر مسؤولين أميركيين حينها من تغطية الجزيرة للمجازر التي يخلّفها القصف الأميركي، ولمشاهد الأسرى من جنود "المارينز" في معسكرات الجيش العراقي، فرصةً جيّدة لتسوية خصوماته، ومشاركة رأيه بخصوص الجزيرة مع مسؤولين مؤثّرين في دوائر صنع القرار الأميركي.
ذلك ما تكشفه إحدى الوثائق المصنّفة "سريّة"، والتي تضمّنت محضر لقاء جمع بن زايد بمدير التخطيط في وزارة الخارجية الأميركية في حينها، ريتشارد هآس، والسفيرة الأميركية الأسبق في الإمارات، مارسيل وهبة. تقول وهبة في الوثيقة التي دوّنت فيها تفاصيل الاجتماع: "بالعودة إلى موضوع شائع في مناقشاته مع المسؤولين الأميركيين الزائرين، أكد (محمد بن زايد) أهمية كبح شبكة الجزيرة الفضائية التي تتخذ من الدوحة مقرًّا لها قبل أي عمل عسكري، وأوصى بن زايد بعدم إرسال الصحافيين مع المقاتلين، على الأقل في البداية، على اعتبار أن احتمال رصد مشاهد الضحايا المدنيين سيكون أمرًا خطيرًا للغاية".
قصف الجزيرة
وتضيف وهبة ناقلة كلام وليّ عهد أبوظبي: "بن زايد قال إنه كان لغزًا بالنسبة له لماذا يستمر القطريون في إشغال الرأي العام من خلال الجزيرة، واقترح أن تستخدم الولايات المتحدة ثقلها من أجل الضغط على الدوحة. واستذكر ضاحكًا اجتماعًا في بداية الحرب على أفغانستان بين أمير قطر (السابق)، حمد بن خليفة آل ثاني، والشيخ زايد بن خليفة آل نهيان (رئيس الإمارات السابق)، والذي اشتكى خلاله الشيخ حمد من تقرير تلقّاه يتحدّث عن أن بن زايد طلب من الجنرال فرانكس قصف الجزيرة. ووفقًا لبن زايد، فإن ردّ الشيخ زايد المباشر كان: وهل تلومه؟".
يعود تاريخ تلك الوثيقة إلى 15 يناير/كانون الثاني 2003. أي قبل ثلاثة أشهر من قصف الجزيرة بالفعل في العاشر من إبريل/نيسان 2003، واستشهاد مراسلها طارق أيوب. في ذلك اليوم أيضًا، أصاب القصف مقرّ تلفزيون أبوظبي القريب، القناة وثيقة الصلة بدوائر الحكم في الإمارات، والتي يصفها مسؤولون أميركيون في الوثائق المسرّبة بـ"المثيرة للجدل"، وهم يقصدون بذلك تغطيتها "المتناقضة" للحرب على العراق.
في إحدى الوثائق غير المصنّفة، والتي يعود تاريخها إلى مارس/آذار عام 2003، تقدّم السفيرة الأميركية في أبوظبي توصيفًا شاملًا لتغطية وسائل الإعلام الإماراتية للغزو الأميركي على العراق. في ما يتعلّق بقناة أبوظبي تحديدًا، تقول وهبة إن أبوظبي قدّمت تغطية حيّة للحرب الدائرة في بغداد، مع فقرات تحليليّة واستضافة معلّقين في مركز أخبار تلفزيون أبوظبي. غير أنّ وهبة تشير في الوثيقة، مثلًا، إلى أن قناة أبوظبي "لم تقدّم تغطية للضحايا المدنيين في البصرة وحلبجة كما فعلت الجزيرة".
ربّما يكون لتركيز التغطية على بغداد ما يفسّره؛ فهي مركز الحكم ومقرّ هياكل الدولة الرئيسيّة، وسقوطها في ذلك الوقت، كان يعني انتهاء حكم صدام حسين، وإعلان "النصر الأميركي". لكن تغطية صور الضحايا ومنكوبي الحرب كان محلّ تساؤل أيضًا بالنسبة للمسؤولين الأميركيين، كما تكشف مثلًا وثيقة لويليام ألبرايت يعود تاريخها إلى سبتمبر/أيلول 2003. ولنا أن نقرأ هذا "التناقض" أيضًا في ضوء نصائح بن زايد لأصدقائه الأميركيين بخصوص كسب الحرب الإعلامية، ومن ثمّ تحريضه على الجزيرة.
"التغطية الإعلامية السيئة": نصائح بن زايد
في وثيقة أخرى، مسجّلة بتاريخ يوليو/تموز 2004، والمتضمّنة محضر اجتماع مع القائد العام للقيادة المركزيّة الأميركية، الجنرال جون أبازيد، والمصنّفة "سرّيًة" من قبل القائم بأعمال القيادة، ريتشارد ألبرايت، يعبّر بن زايد، في عدّة مناسبات أثناء الحديث، عن "إحباطه" من أن الولايات المتّحدة تخسر "حرب الإدراك" في العراق وأفغانستان، وذلك يعود بالأساس إلى "التغطية الإعلامية السيئة"، بحسب تعبيره.
وينقل ألبرايت، وهو الشخص الذي دوّن محضر الاجتماع، عن بن زايد تأكيده على أن التحالف في العراق لم يتكبّد خسائر عسكريّة بالدرجة الأولى، حتّى على مستوى الأفراد، غير أن الإعلام، وتحديدًا العربي منه، كما يقول، ركّز على "الفشل الأميركي المتصوّر"، قائلًا إن وسائل الإعلام العربية سوف تشوّه سمعة أي شيء تريده الولايات المتّحدة.
ويواصل بن زايد توجيه نصائحه إلى الجنرال الأميركي قائلًا إن الولايات المتّحدة بحاجة إلى "تقديم الجانب المتعلّق بها من القصة بشكل أكثر فعاليّة"، مستشهدًا بتفجيرات الفلوجة الأخيرة، والتي قال إن "الجزيرة" عرضت من خلالها مشهدًا لامرأة مسنّة أمام بيت مدمّر، وهي تقول إنها وعائلتها لم يكونا سوى مدنيين أبرياء، وأن الولايات المتّحدة قتلت ماعزها وماشيتها وأبقارها. ثم يعقّب بن زايد على ذلك قائلًا :"هذا من الصعب مواجهته بالنسبة للجمهور العربي".
ويمضي بن زايد إلى شرح رؤيته الخاصّة، مقترحًا أن الطريقة الوحيدة لمواجهة ذلك تتمثّل في تقديم الأدلة وشرح أسباب هجوم القوّات الأميركية وما حققته، قائلًا لضيفه الأميركي: "دع الشعب يرى أن الإرهابيين قد قتلوا".
ودعا كذلك إلى الترويج بشكل أفضل للتغييرات الإيجابية التي تحدثها الولايات المتحدة، وقال إن الخدمات والمرافق العراقيّة، بما فيها المدارس، هي أفضل اليوم مما كانت عليه منذ 30 عامًا، "ومع ذلك فإن قصص النجاح هذه لا تخرج"، على حدّ قوله.
حرب الإعلام الخاسرة
في رسالة أخرى مرسلة من السفارة الأميركية في الإمارات إلى الجهات المختصّة، يؤكد بن زايد على موقفه السابق من الجزيرة، وهذه المرّة لنائب وزير الخزانة الأميركي، روبرت كيمميت، ومستشار وزارة الخارجية فيليب زيليكون. وبحسب نصّ الوثيقة، يشرح بن زايد لضيفيه أن الولايات المتّحدة "تخسر حرب الإعلام"، وذلك ما يكلّفها "ضحايا" في العراق وأفغانستان.
وفي هذا السياق، يستشهد بن زايد باستطلاع أجري حديثًا في أبوظبي حول أسباب الحرب الإسرائيلية على لبنان، والذي أظهر أن 50% من المستطلعة آراؤهم رأوا أن "الإسرائيليين أرادوا احتلال لبنان"، بينما اعتبر 40% منهم أن الولايات المتّحدة "أبلغت الإسرائيليين بمهاجمة لبنان"، وفسّر تلك النتائج بأن 56% من الجمهور العام في الإمارات يشاهد الجزيرة.
ويشرح بن زايد أن التصوّر العام في الإمارات يرى بأن الجزيرة قائمة لأن القيادة المركزية الأميركية تحميها، قائلًا إن الولايات المتّحدة لا تشاركه الرؤى حول قطر، وأن قرارات قطر بخصوص "الجزيرة" كانت أكثر من "مزعجة"، وأنه لم يفهم قراراتها.
وينقل عنه مرسل الوثيقة أيضًا قوله إنه يعتقد أن "الرجال الجيدين" كانوا يخوضون ثلاث معارك: في لبنان، وعلى الخط السوري الإيراني، وفي الإعلام. وشدّد على أن بلاده ليست لديها مشكلة مع الإعلام الحر والمستقل الذي "يبث كلا الجانبين من القضية"، مستدركًا بأنه لا يمكن أن تكون هناك محطة توفّر 95% من تغطيتها لـ"الرجال الأشرار" الذين يعملون خارج البلاد التي توجد فيها أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط.
بن زايد وابنه وقناة الجزيرة
في وثيقة أخرى قديمة، مرسلة بتاريخ 28 إبريل/نيسان 2004، ومذيّلة تحت بند السرية، تكتب السفيرة الأميركية السابقة، ميشيل سيسون، أن محمد بن زايد اعترف بأن ابنه، ذو الـ16 عامًا، كان يتابع قناة الجزيرة وتأثّر بما اعتبره "التضليل" الذي تبثّه عبر شاشتها. يصف بن زايد، خلال اللقاء ذاته، ابنه بأنه "ذكي" و"طالب مستقيم/ملتزم"، غير أنّه خلال الآونة الأخيرة بدأ يعبّر عن بعض الآراء المضادة للغرب، بحسب قول بن زايد، معتقدًا أنّ الأمر كان نتيجة لمشاهدة الجزيرة باستمرار. ثمّ يمضي في شرح وجهة نظره قائلًا: "إذا كانت (الجزيرة) قادرة على التأثير في حفيد قائد معتدل مثل الشيخ زايد بهذه الطريقة، فتخيّل ما الذي بوسعها فعله للطبقات غير المتعلّمة أو الدنيا؟".
بن زايد وابنه مرة أخرى
وبعد حوالى خمس سنوات من ذلك، يعود بن زايد مرّة أخرى لاستذكار تلك القصة في لقائه مع مجموعة من كبار الشخصيّات الأميركية، كما تظهر الوثيقة المؤرّخة في الخامس والعشرين من فبراير/شباط 2009. يكتب السفير الأميركي السابق، ريتشارد أولسون، في رسالة لمسؤوليه حول ما جرى في ذلك اللقاء، قائلًا: "سرد بن زايد قصة ابنه، الذي كان قد أبدى اهتمامًا بتعاليم الأصوليين المسلمين، فأرسله في بعثة إنسانية إلى إثيوبيا، ولكن ليس مع الهلال الأحمر، بل مع الصليب الأحمر". وبعد تلك الرحلة، يقول بن زايد إن ابنه عاد وقد باتت رؤيته للغرب "سليمة" "ومصوَّبة": "لقد كان مندهشًا من أن المسيحيين المشاركين مع الصليب الأحمر كانوا يقدّمون الطعام والدعم لأي محتاج، وليس للمسيحيين فقط"، ثم يمضي قائلًا إن ابنه سمع الروايات عن الغرب عبر عدسة الجزيرة ومثيلاتها.
على هذا النحو إذن، يمكن القول إن بن زايد شعر أن "الجزيرة"، التي يتّهم في الوثيقة ذاتها 90% من العاملين فيها بأنهم من "الإخوان المسلمين"، تهدّد "الإرث" الذي بناه وأراد أن يراكمه بين الأجيال داخل الإمارات، وخارجها أيضًا، وأنّ هذا "التهديد" يمسّه شخصيًّا، قبل أن يمسّ غيره؛ وهكذا قرّر أخيرًا أن يحظر مشاهدة "الجزيرة" على أهل بيته، قبل أن يحظرها اليوم على ملايين من أبناء شعبه.
(العربي الجديد)