وأعطت صحيفة "واشنطن بوست" مثالاً، الشيخ فيصل الجربا، وهو زعيم قبيلة كبيرة، الذي غادر السعودية، العام الماضي، بعدما أحس بأن الخطر يقترب منه إثر اعتقال أميرٍ سعودي نافذ كان يعمل لديه، ووفاة صديق له في ظروف غامضة أثناء الاعتقال. وسافر الجربا إلى عمّان، حيث يعيش أقارب له، لكن ذلك لم يكن كافياً لحمايته، إذ عمدت السلطات الأمنية الأردنية إلى اعتقاله وتسليمه للسعودية، بحسب شخصين مطلعين على الموضوع، مضيفين أنه منذ ذلك الحين، أي منذ خمسة أشهر تقريباً، لم تسمع عائلته عنه شيئا، ولم يتمّ كذلك إصدار تهم بحقه.
وأدت جريمة قتل خاشقجي إلى تسليط الضوء مجدداً على ملاحقة السعودية لمواطنيها الذين يقيمون في الخارج، المعارضين منهم، والمنشقين الذين ينتمون إلى الآسرة الحاكمة.
وتعود محاولة إسكات المعارضة السعودية في الخارج إلى عقود مضت، ورافقت عهود ملوك سعوديين عدة. لكن محمد بن سلمان واصل ممارستها باندفاعٍ خالٍ من أي رحمة منذ أن أصبح ولياً للعهد، بحسب متابعين للشأن السعودي. وبحسب مسؤول سعودي تحدث للصحيفة، فإن محاولة إعادة المنشقين أصبحت في عهد بن سلمان سياسة رسمية للدولة، على أن يتم التفاوض على هذه العودة، وليس عبر استخدام القوة، على حدّ قوله. ولكن الحقيقة، بحسب الصحيفة، هي أن النظام السعودي، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، عمد إلى نصب فخاخ للمعارضين في الخارج حيناً، أو الطلب من حكومات صديقة توقيفهم، إذا كانوا يقيمون فيها، أو حتى تنفيذ عمليات خطف وقحة في أوروبا.
هكذا، تضيف "واشنطن بوست"، اختفى سعوديون من غرف فنادق، أو سحبوا من داخل سياراتهم، أو جرى تحويل طائرات يستقلونها إلى الأراضي السعودية. وقال أمير سعودي معارض، رفَع دعوى ضد حكومة بلاده، إنه تمّ حقنه بإبرة لتخديره ونقله إلى السعودية، على متن رحلةٍ خاصة من مدينة جنيف السويسرية. وبعد سنوات، تمكن من الهرب، لكنه اختفى مجدداً، ولم يسمع عنه شيء إلى الآن.
وقالت ناشطة سعودية تقدمت بطلب لجوء إلى الولايات المتحدة للصحيفة: "نعلم أنهم يستطيعون قتلنا، باستطاعتهم تدمير عائلتك، أو استخدامها لابتزازك. لقد كان الأمر دائماً يسير على هذا المنوال"، مضيفة أن "ملاحقة بن سلمان للمعارضين قد أدت إلى تفاقم حدة الذعر لدى المواطنين السعوديين الذين يقيمون في الخارج".
وبالعودة إلى الشيخ جربا، فهو لم يكن معارضاً للنظام السعودي، لكنه ربما كان مطلوباً لارتباطه بفرع من العائلة الحاكمة على خلاف مع القيادة السعودية الحالية، بحسب مصادر تحدثت للصحيفة الأميركية.
وكان الجربا صديقاً قديماً للأمير تركي بن عبد الله، ابن الملك السعودي الراحل. وجرى اعتقال الأمير تركي العام الماضي، ضمن اعتقالات فندق "الريتز"، في إطار عملية لـ"مكافحة الفساد"، بحسب الحكومة السعودية.
ورغم أن عائلة الجربا لا تعرف عنه أي شيء منذ أن سلمته عمان للسلطات السعودية، لكنها تمكنت من جمع بعض المعلومات وبناء استنتاج حول ما حصل معه منذ أن اعتقلته السلطات الأردنية في حي عبدون الراقي في عمّان، حيث أقام بعد هروبه من المملكة. وبحسب التفاصيل التي جمعتها العائلة، فقد أبقي الجربا في السفارة السعودية في عمّان لفترة قصيرة، ثم نقل إلى الحدود. وفي السعودية، أمضى بضعة أسابيع في جدة. وفي وقت من الأوقات، تمّ أخذه إلى منزل الأمير تركي حيث طلب منه فتح بعض الخزنات. وليس من دليل على ما إذا كان قد تمكن من فعل ذلك. وكان الجربا يعتقد أنه سيكون بمأمن في عمّان، بسبب علاقات قبيلته القوية مع المملكة. لكن المسؤولين السعوديين أبلغوا العائلة لاحقاً، أنهم فشلوا في توقيف طلب اعتقاله. "الموضوع أكبر منا"، هكذا قالوا، بحسب المصادر.
وتذكر الصحيفة الأميركية باختفاء المعارض السعودي ناصر السعيد في العاصمة اللبنانية بيروت في العام 1979. وبعد اختفائه، وصفت السعودية، التي كان يحكمها في ذلك الحين الملك خالد بن عبد العزيز، التقارير التي تتحدث عن قيام الممكلة بخطف السعيد واعتقاله بأنها عارية من الصحة، كما وصفت المعارض السعودي بأنه "لا قيمة له".
وتتحدث الصحيفة عن حالة الأمير سلطان بن تركي بن عبد العزيز، الذي تمكن من فضح عملية اختطافه، ورفع دعوى ضد مسؤولين سعوديين كبار لدى محكمة سويسرية، في العام 2014. وتشرح الدعوى تفاصيل عملية الاختطاف التي جرت في العام 2003، في عهد الملك الراحل فهد بن عبد العزيز. واتهم الأمير سلطان، ابن الملك فهد، عبد العزيز بن فهد، ووزير الشؤون الإسلامية في المملكة آنذاك، صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، بالمشاركة في المؤامرة. وكان الأمير سلطان عند اختطافه، في زيارة لجنيف لتلقي العلاج. وخلال فترة مكوثه في المدينة السويسرية، وجّه انتقادات للمملكة، داعياً إلى إجراء إصلاحات اقتصادية، مسلطاً الضوء على مسائل تتعلق بحقوق الإنسان.
وتشرح المحامية كلايد بيرغستريسر، من بوسطن، أنه "تمّ تحذير الأمير سلطان قبل اختطافه، والطلب منه أن يتوقف عن انتقاد النظام السعودي، والعودة إلى بلده، على أن يكون كل شيء على ما يرام، لكنه رفض. عندئذ، تمّ إرسال ابن الملك والوزير إلى جنيف لإقناعه".
وبحسب الرواية المتداولة، فقد دعي سلطان إلى المنزل الذي يملكه الملك على أطراف مدينة جنيف. هناك، يروي مرافقوه الألمان، لاحقاً، أنهم شاهدوه يتكلم مع ابن عمه أمام حوض للسباحة، قبل أن يدخلا إلى غرفة المكتبة من دون حراس. بعد وقت قصير، وصل خمسة رجال مقنعين. وتقول المحامية، كما اطلعها الأمير سلطان لاحقاً لدى رفعه الدعوى: "تمّ رميه على الأرض، وحقنه في رقبته". أما مرافقوه، فقد تمّ إخبارهم بأنه قرر العودة إلى السعودية طوعاً.
وبعد سبع سنوات، عاش فيها تحت الإقامة الجبرية أو في السجن أو في المستشفى، سمح للأمير سلطان بمغادرة السعودية بعدما ساءت حالته الصحية نتيجة مرض في جهاز التنفس. فسافر إلى بوسطن، حيث رفع الدعوى. لكن في يناير/ كانون الثاني 2016، ارتكب خطأ بركوبه طائرة سعودية في رحلة إلى القاهرة بدعوة من والده، إذ جرى تحويل مسار الطائرة إلى السعودية، ولم يسمع عنه شيء منذ ذلك الحين.
في الفترة ذاتها، كشفت شبكة "بي بي سي" البريطانية عن اختفاء أميرين سعوديين في أوروبا: الأمير تركي بن بندر وسعود بن سيف النصر، والاثنان كانا قد أظهرا معارضة للنظام السعودي، فيما طالب سعود بن سيف النصر بالإصلاح، مبدياً دعمه لرسالة من أمير سعودي مجهول الهوية تمّ تداولها على نطاق واسع في العام 2015، وتدعو إلى تغيير النظام.
وفي مقابلة مع موقع "سبوتنيك" الروسي، العام الماضي، قال الأمير تركي الفيصل إن "من يسميان بالأميرين، هناك مذكرات اعتقال بحقهما صادرة عن الإنتربول". وأخيراً، أصدرت وزارة العدل المغربية بياناً قالت فيه إنه تمّ توقيف الأمير تركي بن بندر "بمقتضى مذكرة توقيف دولية". لكن الإنتربول ردّ ببيانٍ آخر أعلن فيه أنه لم تصدر عنه أي مذكرة اعتقال بحق الأمير السعودي.
Twitter Post
|
وفي مقابلة مع "واشنطن بوست" قبل أشهر من مقتله، ناقش خاشقجي مع الصحيفة قضية الناشطة السعودية لجين الهذلول، التي تمّ توقيفها في أبوظبي، في آذار/مارس الماضي، وإعادتها إلى السعودية، حيث طلب منها وقف تعليقاتها وكتاباتها على وسائل التواصل الاجتماعي. وبعد أشهر تمّ اعتقالها ووصفها بـ"الخانئة" في الإعلام السعودي الذي تديره الدولة، كما جرى خطف زوج الهذلول من عمان، وإعادته كذلك إلى السعودية.
وتختم الصحيفة بقول لخاشقجي: "إنه الترهيب. تلقين هؤلاء درساً، وجعل الناس يخافون".