"موت وفتاة": شيلي الفنان ومأساة مِثاله

30 يناير 2017
(من الفيلم)
+ الخط -
يروي فيلم "موت وفتاة"، الذي يعرض في دور السينما الألمانية حالياً، قصة الفنان النمساوي إيغون شيلي (1890 - 1918) مع الموديل الصهباء فالي نوزيل، أو قصته مع الموت، لا فرق.

الفيلم الذي يحمل عنوان إحدى لوحات شيلي، أنجزه المخرج النمساوي ديتر بيرنر بإنتاج نمساوي-لوكسيمبورغي مشترك، يلعب فيه نوا سافيدرا دور شيلي أما فالي فقامت بدورها فاليري باخنر، وكان العرض الافتتاحي الأول له في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي خلال "مهرجان زيوريخ السينمائي"، لينطلق بعرض خاص بعدها في دار "غاردنباو"، السينما العريقة والمكان الرئيسي لفعاليات مهرجان فيينا السينمائي، قبل أن يخرج منها إلى جمهورية التشيك، حيث تقع حالياً مدينة كروماو أو كرومولوف مسقط رأس والدة الفنان، والمكان الذي عاش فيه برفقه فالي.

يعجّ الفيلم أو حياة الفنان القصيرة، بالموت. فنبدأ مع موت أبيه المريض النفسي سنة 1905، بعد نوبة جنون أحرق خلالها أموالاً ومستندات وسط هلع وتوسلات الزوجة. يسترجع الشاب وهو يرقص محتفلاً مع أصدقائه فجأةً هذه اللحظات وصورة والده وهو يهوي على الأرض ميتاً. كان أبوه رئيس محطة القطار في تولن مسقط رأسه، وقد ترك رحيله أثراً عميقاً في نفس المراهق وجعل نظرته إلى الحياة سوداوية خصوصاً وأنه على الجانب الآخر كان على علاقة متوترة جافة مع والدته.

يذكرنا الفيلم في مشاهده الأخيرة بتلك العلاقة السيئة حين تستعيد الأم المرآة الكبيرة التي نقلها إيغون من المنزل إلى مرسمه من غير رضاها. تقول الوالدة لابنتها غيرتي وصهرها لدى تحاصص ما تركه الفنان أنه وعدها يوم أخذها بأنه سيعيدها إلى المنزل حين لن تعود تلزمه، وهي لن تلزمه بعد الآن! أخته غيرتي كانت أول موديلاته وقد تزوجها صديق وزميل له في أكاديمية الفنون هو أنطون بيشكا.

بعد الأب، يلقى أهم أبطال الفيلم مصيرهم الحتمي وهم في ريعان الشباب، في بلد كانت تكابد حينها أهوال الحرب العالمية الأولى. فموديله المفضل وملهمته فالي تقضي عليها الحمى القرمزية سنة 1917، أما زوجته إيديت، وكانت حاملاً في شهرها السادس، فقد رحلت هي الأخرى قبله بثلاثة أيام إثر وباء "الإنفلونزا الإسبانية" الذي أودى به هو أيضاً.

كان اللقاء الأول الذي جمع شيلي بفالي في خريف 1911، في مرسم غوستاف كليمت (1862-1918)، حين زاره الشاب ليطلعه على رسوماته وكانت فالي موجودة هناك، صديقة وموديل الفنان الكبير (بعض المصادر تشكّك في أنها قد عملت موديلاً لكليمت).

ومن ذلك الوقت صارت موديله فصديقته وعاشا معاً في كروماو وسط الطبيعة، حيث نفّذ الفنان أهم أعماله تقريباً. كان سكّان المنطقة يظهرون العداء له بسبب رسومه الإيروتيكية الجريئة. حتى أنه اتهم يوماً أنه اعتدى على قاصر منهم، فتعرّض شيلي للسجن في نيسان/ أبريل 1912 على أثر ذلك الاتهام ثم أخلى القاضي سبيله بعدما تأكد من أن الفتاة القاصر ما زالت عذراء.

قضى شيلي أربع وعشرين ليلة في السجن على خلفية رسومه "المخلّة بالآداب"، كما أحرقت المحكمة الرسم الذي تظهر فيه هذه القاصر عاريةً وصادرت له أعمالاً تقدر بالمئات جلّها يحوي على عراة. غادر شيلي بعدها المكان متجهاً برفقة ملهمته إلى إحدى ضواحي فيينا.

كانت فالي هي الوحيدة التي آمنت ببراءته ووقفت معه. يكتب شيلي في رسالة إلى صديق بتاريخ 25 كانون أول 1914: "لم يساندني من بين الأقارب إلا فالي، وهي التي عرفتها منذ فترة وجيزة. لقد أظهرت نبلاً في تصرفها...".

لكن هذا لم يكن كافياً ليكمل مشواره معها، فقد أطلعها على أنه سيرتبط بفتاة أخرى. وفي محاولة للدفاع عن نفسه ذكّرها أنه لم يعدها بالزواج لينال صفعة قوية منها، بحسب الفيلم، قبل أن تخرج بدموعها. بعد انفصالها عن شيلي، تتَّبِع فالي دورة في التمريض في فيينا لتعمل في المشفى العسكري رقم 1، ثم تنتقل في خدمتها حتى تصل سبليت حيث تقع مريضة وتلقى حتفها في السابع والعشرين من شهر كانون الأول 1917 بعد أن تركت وصيّة أن يعلموا شيلي بوفاتها.

يحمل شيلي فور قراءة البرقية قلماً ليصحح على لائحة لوحاته اسم لوحة زيتية تعود إلى سنة 1915 من رجل وفتاة إلى "موت وفتاة". ربما شعر بذنب ما تجاهها لأنه بخياره ذاك قد أرسلها إلى الموت.

أنجز شيلي هذا العمل، التعبيري بامتياز، خلال فترة تجنيده إبان الحرب في مكتب قرب فيينا بعد زواجه بقليل فجاءت بقياس 150 سم ارتفاعاً وبعرض 180 سم. نرى في اللوحة فتاة ترتمي في حضن الرجل الذي أصبح هو الموت وتضمه فتشبك يديها خلف ظهره وإن لم تلتصق به، والموت يظهر هنا بحلّة كاهن. موضوع يعود إلى عصر النهضة، أحياه شيلي وكوكوشكا وغيرهما، وفيه تعانق المرأة الموتَ كعشيق.

جاء الفيلم شاحباً قليلاً، صورة فاترة عن الفنان المتمرد، مغايرة لتلك الصورة التي طبعتها رسوماته القلقة في نفوسنا. لقد رسم شيلي عشرات بل مئات الرسومات للأجساد المفعمة بالرغبة والانفعالات والأحلام التي تنعكس على الورق والقماش بحركات متشنجة وتكوينات مستفزة وبخط حيوي يصل حدّ العنف لأشخاص بحثنا عن صورة لهم في الفيلم ولكن...

دلالات
المساهمون