بعين الخبير عرف السعودي جبر ناجي الشمري أن الحوار (ذكر الجمل الذي لم يتجاوز عشرة أشهر) الذي شاهده في سوق الإبل شرقي الرياض، لم يكن جملا عاديا، إذ كان يملك تفاصيل وملامح لا يعرفها إلا المختصون في الإبل، فأصر على شرائه مهما كلف الأمر، وحتى بعد أن رفع صاحبه السعر إلى سبعين ألف ريال، لم يتردد الشمري في الذهاب إلى معرض السيارات القريب من السوق، ليبيع سيارته الجيب، وبعد أقل من عام اتضح أن نظرة الشمري لم تخب، فباع الحوار الذي أطلق عليه اسم جبران، بأكثر من نصف مليون ريال.
"قد يكون الأمر غريبا، ولكن وصول الإبل في السعودية ومنطقة الخليج لأرقام فلكية ليس أمرا جديدا"، كما يقول مالك الإبل زيد الجبعا، موضحا أن الجمال التي تباع بقيم عالية ليست عادية، إذ يُطلق عليها (مزايين) أي بالغة الجمال، ولها مقاييس جمالية محددة لا يفهم بها إلا الخبراء، وتتجاوز أسعار بعضها أكثر من 25 مليون ريال، خاصة في مهرجانات مزايين الإبل، لدرجة أن الأمر بات يستدعي انتباه الجهات الأمنية، خوفا من وجود شبهات مالية في هذه الصفقات، كما يؤكد الجبعا لـ"العربي الجديد".
لكن الجبعا لم يتوقع أن تصل قيمة بعض الأبكار (النوق التي لم تلد بعد) إلى حد المليون ريال، قائلا:"قبل خمس أو ست سنوات، كان أمرا مستبعدا أن تتجاوز قيمة الأبكار المليون ريال، كانت تصل إلى 200 و300 ألف، ولكن تجاوز هذا المبلغ كان أمرا غير واردا، أما اليوم، فمن الطبيعي أن تسمع أن ناقة تم بيعها بـ30 مليون ريال، وفي تصوري الأمر يجب أن يدرس بشكل جيد ويحقق فيه، مهما كان جمال الناقة لا يجب أن تصل إلى هذه القيمة الكبيرة".
ووفق ما وثقه معد التحقيق، فإن أسعار الإبل باتت تتجاوز أسعار العقارات، إذ تم بيع إبل بأكثر من 750 مليون ريال في أم رقيبة في السعودية، من بين الصفقات اشترى أحد رجال الأعمال 30 ناقة بنحو 120 مليون ريال، واشترى آخر ثماني أبكار بنحو 10 ملايين ريال، فيما اشترى مالك إبل معروف عشراً من النوق وفحلا بـ70 مليون ريال.
اقرأ أيضا: الزراعة تهدد السعودية بالجفاف بعد 30 عاماً
تجاوزات كبيرة
بسبب تحول مهرجات مزايين الإبل الخاصة بالقبائل، إلى عصبية قبلية، إذ تتباهى القبيلة بأن إبلها أغلى، ألغت السلطات في السعودية مزايين الإبل الخاصة بالقبائل، وقصرتها على مهرجان وطني واحد يقام سنويا في أم رقيبة، خاصة أن هذه المهرجانات لا تقتصر فقط على البيع والشراء، بل يتم التباهي فيها بكل شيء، بدءاً من الأغاني والرقصات الشعبية، ومرورا بالولائم الضخمة، ولكن الأكثر خطورة فيها، هو ما يدور في الخفاء.
قبل نحو عامين أكدت لجنة أمنية من إمارة المنطقة الشرقية أن مهرجان أم رقيبة، (غرب محافظة حفر الباطن)، شهد انحرافاً عن مساره الذي خصص من أجله، فأصبح يجلب التعصب القبلي وتتفاخر فيه بعض القبائل علناً، بالإضافة إلى انتشار وترويج المخدرات والمسكرات أثناء إقامة المهرجان بدلاً من إحياء التراث الشعبي، وقالت اللجنة في تقريرها الرسمي حول المهرجان إنها:"رصدت فيه عدة ملاحظات سلبية، فلوحظ كثرة وجود أفراد من إحدى الجنسيات العربية في سوق الإبل، لغرض البيع والشراء وبمبالغ عالية جداً، والمبالغة في أسعار الإبل بأم رقيبة بالذات، ويكون البيع والشراء بالنقد، مما يزيد احتمالية أنها عبارة عن غسل أموال، وليست أسعاراً حقيقية للإبل". إلا أن متحدثا في وزارة الداخلية أكد أنه في حال رصدت الجهات الأمنية معلومات عن ارتباط صفقات بيع مزايين الإبل، بعملية غسيل الأموال، فلن تتوانى في فتح تحقيق رسمي في هذا الشأن، وأضاف:"ارتفاع أسعار صفقات بيع مزايين الإبل ليس برهاناً على وجود شبهات مالية".
يرفض المختص في مزايين الإبل، مناحي السبيعي، الاتهامات التي يوجهها البعض بإدعاء أن سوق بيع الإبل بات مرتعا لترويج المخدرات وغسيل الأموال، خاصة أن بعض الصفقات تُدفع نقدا، ويرد واصفا تلك الاتهامات بأنها مجرد أكاذيب (قذرة)، قائلا :"المهرجان مشروع اقتصادي يعود بالنفع على الوطن، وما يباع فيه ليست إبلا عادية، بل هي إبل مميزة ونادرة، وهذا سبب ارتفاع قيمتها الكبير"، ويضيف متحدثا عن تهم المخدرات وغسيل الأموال:"كذب كذب كذب، هذه ليست من أخلاق العرب، ولا من عاداتهم، لا نشاهد في هذه المهرجانات إلا كل الأمور الطيبة، والأخلاق والكرم، هذا تراث الأجداد، إنهم يحاولون تشويه صورته".
اقرأ أيضا: سعوديون في داعش..12 سبباً تدفع مراهقي المملكة إلى التنظيم
نوارة القلب
على عكس الرأي السابق، يرى الصحافي المختص في الإبل والخيول ماجد السبعي، أنه قد تحدث حالات غسيل أموال، ولكنها تظل حالات فردية، ولا يمكن تعميمها، ويقول لـ"العربي الجديد":"لو حدثت فهي مجرد حالات فردية، ليس من السهل الحكم فيها بلا دليل"، ويضيف بحماس كبير:"الإبل هي تاريخ وحاضر الجزيرة العربية، وهي من قدم الزمان، تباع الجيدة منها بأسعار عالية، ولكن كثيرون لا يفرقون بين الإبل المزايين والإبل العادية، ولكن أيضا في المقابل لابد أن نعترف أن الأسعار باتت مبالغا فيها بشكل جنوني".
على ذات النسق، يرفض مالك الإبل إبراهيم الدندني الذي اشترى إبلا بأكثر من 150 مليون ريال، أن يكون في الأمر مخالفات قانونية. وكان الدندني قد رفض الحديث حول الأمر في البداية، ولكن بعد محاولتين تحدث ليدافع عن ملاك الإبل، قائلا لـ"العربي الجديد:"أملك أكثر من 200 رأس من الإبل، اشتريتها بطرق شرعية، وأمام الجميع"، ويشدد الدندني على أن من يستغرب ارتفاع أسعار الإبل لا يعرف حقيقتها، ويعتدل الدندني في جلسته، ويضع فنجان قهوته على الأرض قبل أن يضيف:"المغاتير (وهي الإبل البيضاء)، نوارة القلوب، لا يعرف قيمتها إلا من عشقها، نشاهد خيولا تباع بملايين الدولارات ولا نستغرب، ولكن عندما يكون الحديث عن الإبل فالجميع يتحدث عن المخدرات وغسيل الأموال والأمور القذرة، مع أن الإبل هي أصل العرب وروحها، اشتريت إبلي بأكثر من 150 مليون ريال وجاءتني عروض بأضعاف قيمتها، ولكنني لا أفكر في بيعها، فهي عندي أغلى من أبنائي، فمنها نوق نادرة لا تقدر بثمن".
يستلم دلال الإبل، عبدالله الشمري، دفة الحديث، ليؤكد أن ما يرفع سعر الإبل هو سلالتها ونوعيتها، ويقول لـ"العربي الجديد":"نعرف الناقة أبا عن جد حتى عاشر جد، فهي ليست إبلا عادية، بل نادرة ومن سلالة نقية، بعضها يرجع لفحول مشهورة، فمثلا ناقة (الخضراء) وصلت قيمتها لـ33 مليون ريال، لأنها ابنه الفحل الشهير (فالح)، وأمها (الغبراء) هذه الخلطة هي التي أوصلتها لهذه القيمة، فهي ليست مثل التي تباع في الأسواق، أو تذبح للضيوف".
ويشدد الشمري على أن البعض يعتقد أن هناك أمورا غير شرعية، تقف وراء الأسعار الفلكية للإبل، ويستطرد "الحقيقة لو كان الأمر كذلك لما وجدنا أصحاب الإبل التي اشتروها بالملايين يتمسكون بها، فهي قبل كل شي عشق، تماما كما يعشق الشخص الخيول أو الطيور، فما بالك بإبل من سلالة نقية أصيلة".
اقرأ أيضا: أسماك السعودية.. أسعار مرتفعة وأزمة صيد
شبهات قوية
"أبدا ليست مهرجانات لبيع الإبل"، بهذه الجملة القصيرة يحذر الخبير في الهجن ربيع الشمري من أن الأمر بات يفوق تسويق الإبل، وتجاوزه لأكثر من ذلك، مؤكدا أن مهرجانات المزايين لم تعد مكانا تستعرض فيه الإبل الجميلة، وبات مكانا مشبوها في الكثير منها، ويقول لـ"العربي الجديد":"وقفت بنفسي على بعض الصفقات المريبة، كان هناك مزايدات تصل قيمتها في بعض الأحيان إلى مئات الملايين، وهي لا تستحق ربع هذا المبلغ"، ويضيف:"لا يعقل أن تصل قيمة ناقة إلى عشرات الملايين من الريالات، ولكني شاهدت إحدى هذه الصفقات التي وصل السعر فيها إلى 30 مليون ريال وأعرف كيف تمت، ولاحظت أن المبلغ تم سداده نقدا، هذا الأمر يثير الكثير من الشك، فلا أحد يسدد قيمة 30 مليون ريال نقدا".
في السياق ذاته، يعتقد القانوني السعودي أحمد الرشيدان أن هناك شبهات قوية تحيط بسوق المزايين، فالأمر في نظره لا يخلو من بعض الشبهات، خاصة أن البيع يتم نقدا، وهو أمر مريب، ويقول لـ"العربي الجديد":"كيف يتم الأمر، قد يكون هناك غسيل أموال من تجار مخدرات لم يستطيعوا أن يودعوا الأموال التي حصلوا عليها بطرق غير شرعية في البنوك، فيتفق تاجران على شراء كل منهما إبلاً من الآخر بالملايين، وتتم الصفقة أمام الجميع وكأنها صفقة شرعية، وهي في الإصل غسيل لهذه الأموال المشبوهة"، ويضيف الرشيدان المتخصص في غسيل الأموال:"منذ فترة طويلة وأنا أتساءل عن الأسعار الفلكية المجنونة للإبل في السعودية وبعض دول الخليج، وبمخالطتي لأصحاب الإبل وجدت أنهم من الطبقة غير المتعلمة ولا تملك حتى حسابا بنكيا، ولكنهم في هذه المهرجانات يتحولون إلى مليونيرات، فهل يعقل أن يصبح رجل فقير مليونيرا، لأن جمله ذا عين أوسع من عين جمل آخر، الأمر مثير للشبهة".
في ظل هذا الجدل، لن يكون من السهل حسم الأمر، فالإبل التي تباع في المهرجانات تفوق الـ1500 رأس، وبالتأكيد ليست كلها مشبوهة، ولكن الأمر في كل الحالات يحتاج لتحرٍّ وتدقيق أمنيين، فهي في نهاية المطاف مجرد ناقة.