"مريديان" لأليس ووكر: العنف منتَج أميركي مثل فطيرة الكرز

28 يونيو 2020
(أليس ووكر في 2015/ Getty)
+ الخط -

تعرضُ الروائية الأميركية أليس ووكر (1944) في روايتها "مريديان" الصادرة بترجمة سيزار كبيبو عن "دار المدى" (2019) واقع التمييز العنصري في أميركا. تروي الكاتبة حكاية أفراد مجموعة ثوريّة شهدت احتجاجات عام (1968) لتصوّر عبر توجّهاتهم وسلوكيّاتهم، الأشكالَ التي يأخذها النضال وتعرفها الثورات.

تشيّدُ الكاتبة نسيجاً من العلاقات المتشابكة وتتيح آراءً متعدّدة، لينكشف النص عن طاقاتٍ ووجهات نظر تعالج موضوعها بصورة شاملة، وذلك بالاستناد إلى مفاهيم تدلُّ على الثقافة والنشأة الأولى. تستخدم ووكر الجنس واحداً من معايير التمايز بين البيض والسود؛ فهو حيناً يُمارَسُ على السود باعتبارهم مَتاعاً للبيض، ومن غير حقوق، وحيناً يُمارَس على البيض في شكلٍ من ردّ الاعتبار.

بهذا يُفسَّر الجنس في الرواية بأدوات من خارج تلك العلاقة الطبيعية التي تجمع طرفيها، فهو أشبه بالكرة التي يرميها كلٌّ من فريق البيض والسود في وجه الآخر. الكرة التي قد تخبّئ الأزهار بوجود رِباط الحبّ، وتخبّئ العار إذا استُخدِم لإخضاع الضعيف. تتلاعب ووكر بشخصياتها النسائية، مريديان ولين، بحيث تبدوان امرأتَي ترومان التائه بينهما، وهو زوج لين، وعشيق مريديان على فترات متباعدة. تُصّور النساء عالقاتٍ في عالمِ رجالٍ تائهين، خالين من العاطفة أو مأخوذين فيها، وتمتثل في بناء العلاقات على بنى قمعيّة قائمة في المجتمع الأميركي؛ فهي تضع اللونين النسائيّين في مهبّ مزاج ذكوري مشترك. إنّ ووكر تُناصرُ المرأة، ومن ثمّ تناصر السود في حبكة تبدو معها حريّة الرجل من حرية المرأة، وإنسانية البيض من حقوق السود.

تبرعُ الكاتبة في استخدام ثنائية الأنا والآخر، وتخرج من الثنائية التي بلورتها في علاقة تجمع ثلاث شخصيات، باستنتاج مفادهُ أنّ الاضطهاد يُعذّب المُضْطهِد بالقدر الذي يُمارسهُ على المُضْطَهَدْ. تبدأ الرواية بداية عاصفة، عبر مشهد مريديان وهي تواجه الدبّابة، مع دنوّها من الدبّابة ستبدو أصغر وأكثر سواداً، فيما تظهر الدبّابة أكبر حجماً وأكثر بياضاً. في هذه المقاربة لا تتوضّح فقط ثنائية الأبيض والأسود، بل ثنائية الضعف والقوّة. إنّ مريديان مثالٌ لاعنفي، تدين في أفكارها لـ"حركة الحقوق المدنية" وتكتسبُ بريقها، لا من كونها تمثّل ثقافة اللاعنف فقط، بل لأنها من أولئك الذين يرمون بأنفسهم في المعاناة في سبيل الآخرين. تدرك مريديان أنّ "العنف منتَج أميركي مثل فطيرة الكرز!"، وتقرُّ بفشل اللاعنف أمام ضغوط رفاقها، إلّا أنّها تبقى على قرارها بألّا تقتل في سبيل الثورة على الرَّغْم من استعدادها للموت من أجلها. وهو التساؤل الأخلاقي الذي أسّست عليهِ ووكر نصّها، وتركت نقاشهُ مفتوحاً على آراء الرفاق.

تعرضُ ووكر حياة مريديان على فترات مختلفة، وعبر التركيز على كونها امرأة في مجتمع يَضْطَهِد السود، تقارب الأزمات التي نشأت من جرّاء العنصرية. فمريديان كبرت على شعورٍ بذنب أنّها قد سَرقت سكّينة والدتها، التي عاشت حياتها تتجنّب الرجال البيض. تكبر مريديان مع شعور بأنّها ابنة "امرأة مُستَنْزفة"، الأمر الذي دفعها إلى رفض الأمومة. تترك ابنها عند والدتها وتمضى لاكتشاف "الحريّة".

تشير الراوية إلى ماضي العبودية حيث كانت الحريّة لدى النساء السود هي الاحتفاظ بفلذات أكبادهن، كما لو أنّ الزمن بتغيّرهِ، أظهر مفهوماً كيديّاً للحريّة والأمومة، إذ إنّ مريديان وجدت الحريّة عبر التخلّي عن ابنها. وكانت قد اختبرت وهي في عمر السابعة عشرة أن تكون متسرّبة من المدرسة وزوجة مهجورة وأُمّاً تضيق بالأمومة. لقد رسمت هذه المعاناة صورةَ نضالها، وبدا أنّ ووكر تدفع ببطلتها للانتماء إلى الغرباء الوحيدين لتُدافِعَ عن قضاياهم. هكذا حتى وجدت نفسها تنتمي إلى "حركة الحقوق المدنية"، حيث راح عالمها يتّسع؛ تلتقي بأصدقاء جُدد في الجامعة، تعرف علاقات مع الآخرين، لكنها تبقى متغرّبةً عن جسدها، إذ كانت قد كبرت وهي تقاوم رغباتها وتكبتها، حتى باتت تجهلُ جسدها. وعبر تجربة الجهل بالجسد، تستنهضُ الكاتبة "مريديان" أخرى من داخل تلك التي ترزح تحت إرث العنف والتمييز، تستنهضُ واحدةً تقاوم الكراهية بالحبّ والعنفَ بنقيضهِ.

يتلخّص الدرس الإنساني الذي تعرضه ووكر في نموّ علاقة مريديان مع لين السيدة الأميركية البيضاء، حيث تُوظِّف الكاتبة شخوصها لأداء أدوارٍ في عالمٍ، بوابتهُ لون البشرة؛ إذ تشعر لين بأنّها "مذنبة بتهمة البياض"، الأمر الذي يدفع بِها إلى التسامُح مع مغتصبها الأسود إلى جانب خوفها على السود من الشرطة، لأنّ الأخيرة "تهاجم السود في المجتمع من دون تمييز". في المقابل، تدافع مريديان عن صورة لين لدى الزوج ترومان، عندما تسألهُ: "ما الذي تملكه لين غيرك؟" يخبرها الزوج بأنّ زوجته تملك كلّ شيء، فهي "لا تزال سيّدة أميركية بيضاء". وكان ترومان قد تزوّجها رغبةً بفتاة مثالية، بدلاً من مريديان "السيّدة المتوحّشة" التي ولدتْ ذريتها ومن ثم أخفتها عن الآخرين. لكن بفقد ترومان ولين طفلتهما في أعمال عنف، يَظهر الجميع متعادلين في الخسارة.

تمثل مريديان بخياراتها الإنسانية جلّ مقولات الرواية. نجدها لا تَحار في الاختيار بين "الصحيح" الذي يعني ألّا نقتل أبداً، و"الصائب" الذي يُشرّع القتل عندما يكون القتل ضرورياً. نرى الصديقتين وقد تقاربتا في نضالٍ نسوي مشترك، إذ تقول واحدتهما للأخرى: "لا يوجد شخص كامل" - وهما هنا تنفيان فرادة ترومان - تغمز مريديان لين وتستثني "النسوة البيض" باعتبارهن كاملات. لكن لين تستدرك وتشيرُ إلى تغيّرات الأزمنة، فترى أنّ وقت النساء البيض "سيحين أيضاً". وبهذا، عبر كلمات قليلة، توحي ووكر إلى أنّ النص برمتهِ، يصلحُ لعَرضٍ مُقابِل قد يدفعهُ البيض في وجه السود. وكثيراً ما ترك الأدب عذابات البشر معلّقة في انتظار التاريخ وتغيّر أزمانهِ.

المساهمون