في مقدمته لأوراق الأمير فيصل عن الحكومة العربية في دمشق، التي نشرت عشية الذكرى المئوية للثورة العربية والحكومة العربية في دمشق، يأخذ المؤرخ الأردني سليمان الموسى على مجايلي فيصل من الزعماء عدم اهتمامهم بتدوين يومياتهم ومذكراتهم لتفيد المؤرخين في دراسة تلك الفترة العاصفة بالأحداث في الربع الأول للقرن العشرين.
ولكن كان لدينا ما يعوّض ذلك لدى أفراد الحلقة العروبية التي كانت تحيط بالأمير/ الملك فيصل خلال الثورة العربية والحكومة العربية في دمشق 1918-1920 وحتى بعد انتقاله إلى العراق (أحمد قدري وعلي جودت ورستم حيدر وغيرهم)، الذين تعتبر مذكراتهم مصدراً مهماً في دراسة تلك الفترة.
ومع ذلك لا يتوقف نهم المؤرخين، وخاصة بمناسبة المئويات، عن البحث عن المزيد من المذكرات لأفراد ذلك الجيل، الذي انخرط في الجمعيات العروبية وشارك في الثورة العربية وفي تأسيس الحكومة العربية بدمشق 1918-1920، التي كانت تعبيراً عن "الحلم العروبي" بدولة قومية تعيد العرب إلى المشهد بعد قرون من اختفائهم وراء الدول التي حكمت المنطقة.
ومن ذلك لدينا مذكرات تحسين قدري (1892-1986) المرافق العسكري للأمير/ الملك فيصل، التي نشرها المؤرخ العراقي سيّار الجميل أولاً في جريدة "الزمان" العراقية خلال 2017، ثم في كتاب مستقل أغناه بالشروح والتعليقات والملاحق صدر بعمّان عن "دار الأهلية" في أواخر 2018.
وتجدر الإشارة إلى أن تحسين قدري ولد في بعلبك لأسرة دمشقية معروفة، وتخرج من "المدرسة الحربية" في إسطنبول، وشارك في الحرب العالمية الأولى على جبهة القوقاز (1915)، ثم خدم في حلب والمدينة، والتحق في 1917 بالأمير فيصل الذي كان يقود الجيش الشمالي، ودخل دمشق مع الكوكبة الأولى.
وقد تأثر تحسين بأخيه الأكبر أحمد قدري، الذي كان من مؤسسي "جمعية العربية الفتاة" في باريس خلال دراسته الطب، وأصبح الطبيب الخاص للأمير/ الملك فيصل. أما تحسين فقد أصبح المرافق الخاص لفيصل منذ وصوله إلى دمشق ورافقه إلى مؤتمر الصلح في باريس، حيث كان شاهد عيان على كثير من الاتصالات والاجتماعات التي أجراها الأمير/ الملك فيصل. وقد رافقه أيضاً إلى العراق بعد ترشيحه للعرش هناك وبقي مرافقاً له خلال 1921-1931، ثم رئيساً للتشريفات الملكية وسفيراً للعراق في باريس وطهران والقاهرة وبيروت.
لكن ما هو متوقع من مذكرات شخصية مهمة كتحسين قدري لا نجده في هذا الكتاب. فالمؤرخ سيّار الجميل يصف ما وجده "مذكرات مقتضبة" اعتنت بفترة طفولته وشبابه وحياته الأولى، ولذلك ترك الاحتمال لوجود مذكرات أو يوميات أخرى له (ص 23). ولكن مع إمعان النظر في القسم الأخير من المذكرات، الذي يتعلق بالحكومة العربية في دمشق 1918-1920، تظهر لدينا الكثير من العناوين الجانبية التي دوّنها ليكمل ما يتعلق بها مما يدل على أن هذه المذكرات غير مكتملة.
وهكذا على سبيل المثال نجد ما يلي: معاهدة سايكس- بيكو، قضية لبنان وفلسطين، عهود الإنكليز إلى الملك حسين، حب لورنس للعرب، ما هي الدوافع التي أدت إلى عدم صراحة لورنس في قضية فلسطين مع الأمير فيصل؟ الأسباب التي أدّت إلى واقعة ميسلون، هجوم غورو على دمشق، عدم كفاءة الاستخبارات العسكرية والحكومة السورية.
ويؤكد ذلك قوله بعد ذكرها "فهذه كلها نقاط أساسية تاريخية يجب أن أبدي رأيي فيها، وما أعلم إذا كان رأيي مصيباً أم لا؟ فهذا التاريخ والمستقبل يكشف عنه الستار" (ص 175).
ومع ذلك، إن ما هو موجود في المذكرات، التي توقفت فجأة عند وصول "لجنة كينغ- كرين" الأميركية إلى دمشق في صيف 1919، يتضمن بعض التفاصيل الدقيقة التي يبثها أو يوثقها تحسين قدري من موقعه مرافقاً خاصاً للأمير/ الملك فيصل، وربما ينفرد في معظمها، سواء في ما يتعلق بنفسه أو بالأمير/ الملك فيصل.
من ذلك لدينا وصفه دخول دمشق صباح 1 تشرين الأول/ أكتوبر مع الكوكبة الأولى للجيش العربي، حيث لدينا ما يعبّر عن مشاعر هذا الجيل الذي التف حول الأمير/ الملك فيصل، وبقي مخلصاً للهدف البعيد الذي نذر أفراده أنفسهم له. في لحظة دخوله دمشق من جهة الجنوب نجد في المذكرات ما يلي: "دخلنا دمشق وكنت راكبا حصاني وبجواري جميل المدفعي (ضابط مدفعية ومستشار لاحق للأمير فيصل في سورية ثم وزير ورئيس وزراء في العراق)، وكنا نتحدث عن الثورة العربية وعن نشوة النصر وعن الآمال لاستقلال البلاد العربية والوحدة العربية... كنت أحلم بهذا الحدث التاريخي قبل حصوله وسادني شعور غامر بالوطنية والقومية العربية. كنت أعمل ليل نهار في سبيل إنجاح هذا الحدث. زمن أول يوم لدخول الأمير فيصل دمشق (3 /10/1918) باشرتُ وظيفتي كمرافق خاص وعسكري للأمير" (ص 171).
ولكن بعد العناوين المذكورة، التي لم يدوّن تحتها ما كان يودّ أن يقوله، يقفز فوراً إلى مرافقته للأمير فيصل إلى باريس للمشاركة في مؤتمر الصلح في 1919، حيث يوضح هنا بعض الأمور التي شاهدها أو عايشها برفقة الأمير فيصل وتعليقاته على مساعيه هناك في سبيل القضية العربية.
من ذلك مثلاً تصرّف الفرنسيين مع الأمير فيصل لإغرائه بالحياة الباريسية "كما كانوا يعملون مع باي تونس". وهكذا فهو يروي كيف أن الجانب الفرنسي دعاه إلى حفلة راقصة في بلدية باريس، وكان مع الأمير فيصل وزير الخارجية المسيو غو، حيث جاءت الراقصات بعد انتهاء رقصة الباليه إلى الطاولة التي يجلس عليها الأمير فيصل للترحيب به ومجالسته. ولكن الأمير نهَر تحسين قدري وقال له "هيا لنخرج ونذهب من هنا! هل الفرنسيون يفكرون أنني جئت إلى هنا للتمتع بالراقصات والوَنْسة؟ لا، إنهم يغلطون في ذلك". وكما يضيف تحسين قدري فقد كان الأمير فيصل منفعلاً و"ترك الحفل غاضباً، وقد بهت جميع الحاضرين عندما غادر الأمير الحفل" (ص 178).
كان هناك ما يشغل الأمير فيصل بالفعل: "كان الأمير كثير الاهتمام في نجاح الثورة العربية، وسماع أول صوت للثورة والأمة العربية في طلب استقلالها. وكان يطلب بإلحاح من الملك حسين أن يزيده من الإيضاح ويرسل له جميع مخابراته مع الإنكليز" (ص 178).
كانت مشكلة الأمير فيصل التي تسبّب له الحرج أنه كان يسمع شيئاً من والده عن "العهود المكتوبة مع الحلفاء"، ولكنه يسمع الآن من الحلفاء غير ذلك. ومن هنا "قرّر فيصل الذهاب إلى لندن للاتصال بالبريطانيين وأخذ الوثائق التي كانت معقودة بينهم وبين أبيه الملك حسين"، ولكنهم "كانوا يماطلون بها ولم يجيبوه على مطالبه سوى بالمماطلة" (ص 179-180).
في هذه الحالة، التي لم يصل فيها إلى شيء مع فرنسا وبريطانيا، "لم يرد أن يضيع الفرصة في إيجاد دولة عربية كأساس لاستقلال جميع البلاد العربية في المستقبل" واتصل بالرئيس الأميركي ولسن وزير الخارجية تشارلز هيوز "وكانوا فعلاً يساعدونه على هذه السياسة"، و"لكن السياسة الفرنسية والإنكليزية كانت تطغى على السياسة الأميركية، ومع ذلك تقرّر إرسال هيئة استفتاء دولية إلى سورية" (181-182 و 186).
أما المسألة التي أثارت الآراء المختلفة حول الأمير فيصل في باريس فكانت اتصال زعماء الصهيونية (وايزمن وسوكولوف) به وتوصل الطرفين إلى ما يسمى "اتفاقية فيصل – وايزمان" كانون الثاني / يناير 1919. وحول هذا يقول تحسين قدري "إن الأمير فيصل كان بين مشاكل جمة: أولها فرنسا وطلبها الانتداب على سورية، ثم إنكلترا ووجودها في فلسطين، ثم الدخول لمؤتمر الصلح، ثم نكث الإنكليز للعهود المقدمة للملك حسين.. وكان الأمير فيصل تجاه كل هذه المشكلات يعلم بما يضمره اليهود، ولكنه أراد أن يستفيد من هذه المناورة السياسية ويضع أساس فكرة القومية العربية واستقلال البلاد العربية" (ص 185).
وبناء على تأكيد الإنكليز "أنه لا يمكن أن تكون دولة صهيونية في فلسطين، أما عن يهود فلسطين فهم مواطنون ولا بأس من ذكر اسم وطنهم ليس إلا، فكتب فيصل بخط يده... الخ" (ص 185).
والمقصود هنا هو التحفّظ الذي كتبه الأمير فيصل بالعربية على النسخة الإنكليزية للاتفاقية بالعربية ووقع تحته "بشرط أن يحصل العرب على استقلالهم كما طلبت بمذكرتي المؤرخة في الرابع من شهر يناير سنة 1919 المرسلة إلى وزارة خارجية حكومة بريطانيا العظمى. ولكن إذا وقع أقل تعديل أو تحويل يقصد بما يتعلق بالمطالب الواردة بالمذكرة فيجب أن لا أكون عندها مقيدا بأي كلمة وردت في هذه الاتفاقية التي يجب اعتبارها ملغاة لا شأن ولا قيمة قانونية لها ويجب أن لا أكون مسؤولا بأية طريقة مهما كانت".
وبهذه المناسبة، أوصل الأمير فيصل إلى مرافقه المؤتمن فلسفته السياسية التي كان يعمل بوحي منها، وهي على إيجازها يمكن أن تساعد على فهم الأمير فيصل والحكم عليه: "كان يذكّرني شخصياً إني أريد أن أعمل نواة لجيل المستقبل وهذا الجيل يكمل ما بنيتُه. نعم هذا البناء فيه الكثير من الشوك، وعلى الجيل العربي القادم أن يزيله، وبدون أساس لا يمكن بناء القومية العربية لكي تتأصّل في الأجيال القادمة. سياستي أن نستفيد من كل فرصة مناسبة، ورويداً رويداً ستطغى الفكرة العربية، ولا بدّ من حرب ثانية أو فرصة ثانية، وهكذا سوف تستفيد الأمة العربية وتبني مجدها الغابر" (ص 185).
ففي هذه الفلسفة، تبدو واضحة الفكرة الأساسية التي كان يؤمن ويعمل لها الأمير فيصل (إحياء العروبة وبناء الدولة العربية) والسياسة الواقعية التي كان يتبعها (أن نستفيد من كل فرصة مناسبة) وانتظار حرب قادمة تفيد العرب أكثر بعد أن تنبهوا إلى أهمية العلاقات الدولية مع مؤتمر الصلح في باريس. ولكن هذه الفرصة (الحرب العالمية الثانية) ضاعت بسبب انقسام الزعماء العرب ما بين المعسكرين (دول الحلفاء ودول المحور)، وهو ما أدى إلى ما حدث في 1948 و"الحرب الباردة العربية- العربية" حتى حرب 1967 الخ.
في نهاية هذه المذكرات، يشير تحسين قدري إلى جانب مهم يتعلق بثقافة الأمير فيصل أو بقدرته على الانفتاح على الثقافات الأخرى لخدمة قضيته. ففي طريقه للمشاركة في مؤتمر الصلح باسم العرب كان الأمير فيصل يعتدّ بلباسه العربي، الذي حرص عليه خلال مقابلته الملك جورج الخامس (1865-1936) بلندن في أواخر 1918، ويعتمد في اللقاءات على لورنس للترجمة. ولكنه رأى أنه لا بدّ من التكيف فأوصى على أول بدلة مدنية لدى الخياط الفرنسي المعروف فاندوم ليلبسها تحت العباءة أولاً، ثم "أصبح يلبس اللباس المدني بأناقة فائقة، حيث كانت رشاقته تساعد على أن تكون من أشيك رجال الغرب بالأناقة والرشاقة والذوق السليم (ص 188)، وهو ما كان يعطي من يلتقيهم صورة مختلفة عن العرب.
في هذا السياق، يذكر تحسين قدري أيضاً موهبة الأمير فيصل في سرعة تعلّم اللغة الفرنسية خلال إقامته في باريس. فعند قدومه إلى باريس في مطلع 1919 "لم يكن يعرف الفرنسية إلا القليل منها" و"لكنه بدأ بالاجتهاد في أخذ الدروس الفرنسية بكل جد ونشاط، وكان ينكبّ لتعلّم اللغة إلى منتصف الليل، والغريب أنه بعد مدة قليلة جداً أصبح يتكلم بطلاقة بل ويخطب بها أيضا" (189). ومع هذا التطور أصبح يلتقي بالشخصيات الفرنسية المعروفة والمؤثرة بما في ذلك الكاتب أناتول فرانس الذي فاز بـ"جائزة نوبل للأدب" في العام التالي (1921).
وللأسف، توقف تحسين قدري في مذكراته فجأة عند قدوم لجنة كينغ- كرين إلى دمشق صيف 1919، وهي التي اقترحها الرئيس ولسن في مؤتمر الصلح بعدما سمع خطاب الأمير فيصل ودفاعه عن حق العرب بالاستقلال وعوّل عليها كثيراً الأمير فيصل بعد عودته إلى دمشق داعياً السوريين إلى أن ينتخبوا ممثليهم (المؤتمر السوري) ليعبروا عن رغبتهم أمام المجتمع الدولي. وبعبارة أخرى فقد حرمنا هذا التوقف المفاجىء من رواية تحسين قدري للأحداث اللاحقة وتحليله لها حتى معركة ميسلون في 24 تموز/ يوليو 1924، وسقوط "المملكة السورية العربية"، التي أعلن المؤتمر السوري عن استقلالها، واختيار الأمير فيصل ملكاً دستورياً عليها في 7 آذار 1920، مع أنه كان يستعد لذلك بعد أن وضع الكثير من العناوين التي كانت تشمل تلك الأحداث المفصلية خلال 1919-1920.
* باحث وكاتب كوسوفي سوري