29 سبتمبر 2024
"مؤرخون" في تونس أخذتهم العزة بالإثم
لافتٌ للانتباه انخراط أساتذة تاريخ في الجامعة التونسية من شتّى الرتب الجامعية، ينتمون إلى حقول الاختصاصات التاريخية المختلفة، من تاريخ قديم ووسيط وحديث ومعاصر والزمن الحاضر، يصفون أنفسهم مؤرخين، انخراطهم بالشأن السياسي، وتهافت بعضهم على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة على طريقة ظهور نجوم الغناء والسينما والرياضة، واستعمال الحزب الحاكم، نداء تونس، ورئيس الدولة الباجي قائد السبسي، لهم، حتى استحال بعضهم مؤرخا للسلطان، و"مثقفه" التقليدي الذي يحرّكه كلما يشتدّ عود خصومه السياسيين، وكلما تتعالى أصوات المقاربة السياسية المغايرة الداعية إلى إعادة النظر في اتفاقيات الاستقلال الداخلي والتام التي وُقعت سنتي 1955 و1956، ومنزلة السيادة الوطنية وثروات البلاد الباطنية منها، وفي الذاكرة الوطنية ودور مختلف الفاعلين فيها ومكانتهم منها، على اختلاف انتماءاتهم السياسية والأيديولوجية والاجتماعية.
عرائض هؤلاء "المؤرّخين" شبيهة في شكلها بدعوات المناشدة التي كان يوقعها بعضهم، داعيا الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إلى الترشح لولاية جديدة، لتصل سنوات حكمه نحو ربع قرن، إذ كانت الأسماء تحشر متراصةً، حتى تظهر القيمة الكمية، أما القيمة النوعية فلم تكن مبجّلةً في تلك الثقافة السياسية القطيعية، حتى اكتشف بعض التونسيين الحقيقة التي تندّر بها عوام الناس في منتدياتهم ومجالسهم، وفي صفحاتهم الافتراضية، ومفادها "في تونس ستون مؤرخا"، العدد الذي لا يوجد حتى في فرنسا والمملكة المتحدة.
انحدر العدد في البيان الصادر في الصحافة التونسية يوم 10 إبريل/ نيسان الجاري بعنوان
"رفقا بالتاريخ سي التميمي"، إلى الخمسين، بعد بياني الستين مؤرخا الموجهة سهامهم إلى هيئة الحقيقة والكرامة، الموقعين في 9 أبريل/ نيسان 2017 و22 مارس/ آذار 2018، وربما يعود ذلك إلى صحوة ضمير واستفاقة من بعضهم، ووعي متأخر بالتورّط في لعبة السياسة وتجاذباتها وإكراهاتها وتحالفاتها وعداواتها وصداقاتها، بعد أن كان يعتقد أنه يخوض معركة تاريخية صرفة تدخل في صميم اختصاصه. ويوحي عنوان البيان الجديد أن المعركة لم تعد تستهدف هيئة الحقيقة والكرامة، ورئيستها سهام بن سدرين، وإنما باتت تدور بين مؤرخين، وتستهدف المؤرخ الكبير عبد الجليل التميمي، ومنبره العلمي ذائع الصيت "مؤسسة التميمي للبحث العلمي"، للمعلومات التي ظهرت منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين في مدينة زغوان بمسمى "مركز الدراسات والبحوث العثمانية والموريسكية". ذنب التميمي، حسب هذه الجمهرة من "المؤرخين"، أنه صرّح لصحيفة إلكترونية في 23 مارس/ آذار 2018 مشككا في القيمة العلمية والتاريخية لبيان الستين مؤرخا، معتبرا أن لا قيمة علمية لهذا النص الذي يعتبره مهزوزا، وقد كُتب بأسلوب مهترئ وغير مدروس، وفيه الاعتباط والكذب وعدم الصدق وفاقدا النزاهة، ولكن خطيئته التي لا تغتفر أنه فتح أبواب مؤسسته للمؤرخ توفيق البشروش والصحافي الصافي سعيد والمحامية فوزية باشا ورئيسة هيئة الحقيقة والكرامة بن سدرين، ولجمهور واسع من المدونين والمهتمين بقضيتي الاستقلال والثروة الوطنية في 7 أبريل/ نيسان الجاري، للنبش من جديد في اتفاقيات الاستقلال، ومدى حصول تونس على استقلالها سنة 1956 من عدمه، وسيادة الدولة التونسية على أراضيها وثرواتها وعلاقتها بالمستعمر القديم، وغير ذلك من قضايا تعد من المحرّمات في تمثلات القائمين على السلطة في تونس اليوم، المنتمين إلى المدرسة السياسية والحزبية الدستورية التي كان رموزها وقياداتها وراء التوقيع على تلك الاتفاقيات.
لن يُنقص بيان الخمسين مؤرخا شيئا من أهمية عبد الجليل التميمي مؤرخا محترفا وباحثا مجددا في مجال الدراسات التاريخية والاستكشاف العلمي في الإنسانيات، وأحد أبرز قادة المدرسة التاريخية التونسية والمغاربية المعاصرة، وصاحب إحدى أهم المدونات التاريخية عن الدراسات العثمانية والموريسكية، وكذلك في المسألة الوطنية التونسية والمغاربية ككل، وقضايا الدولة والاستبداد والديمقراطية، ومن قيمة مؤسسته العلمية حاضنة للباحثين المغاربة والعرب، من خلال ما تنظمه من مؤتمراتٍ علميةٍ متواترةٍ على طول السنة، من دون كلل أو ملل، أربعة عقود متتالية، لم تستطع منافستها في ذلك المؤسسات البحثية الجامعية في تونس، ومنبرا للنشر في المجلة التاريخية المغاربية والمجلة العربية للدراسات العثمانية، وغيرهما من الدوريات العلمية التي لا تزال تصدر. والمفارقة أن كثيرين ممن وقّعوا البيان ضد التميمي، يعطي الدروس، واصفا إياه بعدم التمييز بين الذاكرة والتاريخ، وبانخراطه في جوقة ناكري الاستقلال والاستفادة من دولته، وأن مؤسسته لا تدخل في شبكة المؤسسات العلمية الجامعية، هم طلبة التميمي أنفسهم الذين كانوا يجلسون أمامه في مدرجات كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في تونس، وفي غيرها من المعاهد والكليات، ويتلقون العلوم التاريخية على يديه فيما يشبه علاقة الشيخ بمريديه، وقد أشرف على أطروحات الدكتوراه التي ناقشها بعضهم، وفتح لهم مؤتمرات علمية كانت تنظمها مؤسسته، ودوريات التي ينشرها، ونشر لبعض منهم بحوثهم وكتبهم وأطروحاتهم، وأنفق على ذلك من حرّ ماله، في طبعاتٍ أنيقة، ولكنها محدودة وصلت إلى أهم الجامعات في العالم، من دون أن تكون لها صبغة تجارية أو ربحية، كما ادعى بيان الخمسين. أما الآخرون فهم من زملائه الذين جمعتهم معه قاعات التدريس ولجان مناقشة مذكرات الدراسات المعمقة والماجستير وأطروحات الدكتوراه والمؤتمرات والمحاضرات. كانوا جميعا يقيمون في مؤسسته في زغوان أياما بلياليها، ويشاركون في المؤتمرات، ويقدّمون مداخلاتهم التي تنشر لاحقا في كتب جماعيةٍ ودوريات، يثرون بها ملفاتهم العلمية، ما مكّنهم من الالتحاق بالجامعة التونسية للتدريس والبحث، أو الارتقاء في سلمها وتراتبيتها العلمية، من دون أن يدفعوا دينارا واحدا مقابل الخدمات التي تمتعوا بها.
بيان الخمسين مؤرخا هو عنوان قتل الأب بالنسبة لبعضهم، وهو عنوان الجحود ونكران الجميل بالنسبة لآخرين ممن أخذتهم العزة بالإثم، والذين انخرطوا في الشأن العام السياسي بمسميات
الموضوعية الحيادية العلمية التاريخية. كان على هؤلاء "المؤرخين" الذين لايزال بعضهم يتعلم فنون الكتابة التاريخية، والالتزام بشرط الموضوعية، أن يعلموا أن الخوض في قضايا الاستقلال والسيادة الوطنية هي مسائل سياسية ذات أولوية، ما زالت النزاعات الفكرية والأيديولوجية والسياسية والاختلافات العميقة بشأنها قائمة الذات، ما يخرجها من دائرة احتكار المؤرخين، ويضعها في أيدي الباحثين في علوم السياسة والاجتماع السياسي والأنثروبولوجيا السياسية، ذلك أن آثار الصراع حولها ما زالت جلية، وتداعياتها لا تزال قائمة، وأن بعض المشاركين في معاركها وانعكاساتها على التونسيين ونخبهم الفكرية والسياسية هم في هرم السلطة اليوم، مثل الرئيس الباجي قائد السبسي نفسه، وآخرين من الطرف الثاني لا يزالون منخرطين في أحزاب المعارضة العروبية التي ينتمي إليها كثيرون من اليوسفيين، أو من أبنائهم الذين يستبطنون الظلم الكبير والضيم التاريخي الذي تعرّضوا له، نتيجة معارضتهم اتفاقيات الاستقلال التي كانوا يعتبرونها صورية، وتمثل خطوة إلى الوراء، كما كان يصرح الزعيم الكبير الشهيد صالح بن يوسف.
عرائض هؤلاء "المؤرّخين" شبيهة في شكلها بدعوات المناشدة التي كان يوقعها بعضهم، داعيا الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي إلى الترشح لولاية جديدة، لتصل سنوات حكمه نحو ربع قرن، إذ كانت الأسماء تحشر متراصةً، حتى تظهر القيمة الكمية، أما القيمة النوعية فلم تكن مبجّلةً في تلك الثقافة السياسية القطيعية، حتى اكتشف بعض التونسيين الحقيقة التي تندّر بها عوام الناس في منتدياتهم ومجالسهم، وفي صفحاتهم الافتراضية، ومفادها "في تونس ستون مؤرخا"، العدد الذي لا يوجد حتى في فرنسا والمملكة المتحدة.
انحدر العدد في البيان الصادر في الصحافة التونسية يوم 10 إبريل/ نيسان الجاري بعنوان
لن يُنقص بيان الخمسين مؤرخا شيئا من أهمية عبد الجليل التميمي مؤرخا محترفا وباحثا مجددا في مجال الدراسات التاريخية والاستكشاف العلمي في الإنسانيات، وأحد أبرز قادة المدرسة التاريخية التونسية والمغاربية المعاصرة، وصاحب إحدى أهم المدونات التاريخية عن الدراسات العثمانية والموريسكية، وكذلك في المسألة الوطنية التونسية والمغاربية ككل، وقضايا الدولة والاستبداد والديمقراطية، ومن قيمة مؤسسته العلمية حاضنة للباحثين المغاربة والعرب، من خلال ما تنظمه من مؤتمراتٍ علميةٍ متواترةٍ على طول السنة، من دون كلل أو ملل، أربعة عقود متتالية، لم تستطع منافستها في ذلك المؤسسات البحثية الجامعية في تونس، ومنبرا للنشر في المجلة التاريخية المغاربية والمجلة العربية للدراسات العثمانية، وغيرهما من الدوريات العلمية التي لا تزال تصدر. والمفارقة أن كثيرين ممن وقّعوا البيان ضد التميمي، يعطي الدروس، واصفا إياه بعدم التمييز بين الذاكرة والتاريخ، وبانخراطه في جوقة ناكري الاستقلال والاستفادة من دولته، وأن مؤسسته لا تدخل في شبكة المؤسسات العلمية الجامعية، هم طلبة التميمي أنفسهم الذين كانوا يجلسون أمامه في مدرجات كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في تونس، وفي غيرها من المعاهد والكليات، ويتلقون العلوم التاريخية على يديه فيما يشبه علاقة الشيخ بمريديه، وقد أشرف على أطروحات الدكتوراه التي ناقشها بعضهم، وفتح لهم مؤتمرات علمية كانت تنظمها مؤسسته، ودوريات التي ينشرها، ونشر لبعض منهم بحوثهم وكتبهم وأطروحاتهم، وأنفق على ذلك من حرّ ماله، في طبعاتٍ أنيقة، ولكنها محدودة وصلت إلى أهم الجامعات في العالم، من دون أن تكون لها صبغة تجارية أو ربحية، كما ادعى بيان الخمسين. أما الآخرون فهم من زملائه الذين جمعتهم معه قاعات التدريس ولجان مناقشة مذكرات الدراسات المعمقة والماجستير وأطروحات الدكتوراه والمؤتمرات والمحاضرات. كانوا جميعا يقيمون في مؤسسته في زغوان أياما بلياليها، ويشاركون في المؤتمرات، ويقدّمون مداخلاتهم التي تنشر لاحقا في كتب جماعيةٍ ودوريات، يثرون بها ملفاتهم العلمية، ما مكّنهم من الالتحاق بالجامعة التونسية للتدريس والبحث، أو الارتقاء في سلمها وتراتبيتها العلمية، من دون أن يدفعوا دينارا واحدا مقابل الخدمات التي تمتعوا بها.
بيان الخمسين مؤرخا هو عنوان قتل الأب بالنسبة لبعضهم، وهو عنوان الجحود ونكران الجميل بالنسبة لآخرين ممن أخذتهم العزة بالإثم، والذين انخرطوا في الشأن العام السياسي بمسميات