بسلاسة وهدوء، يروي المخرج المصري تامر عزّت، في فيلمه الجديد "لما بنتولد" (2019)، حكايات مستلّة من وقائع العيش اليومي في بيئة اجتماعية تعاني مصائب وتحدّيات. سلاسة وهدوء يُبرزان، بمواربة بصرية متواضعة، ارتباك علاقات، وقسوة حياة. فالاجتماع المصري غير متمكّن من تحرير ذاته وناسه من أهوال الفقر والنزاع الطبقي والصراع الديني، المبطّن والعلني، ولا من صدام أجيالٍ في عائلاتٍ، بعضها منتمٍ إلى طبقة ثرية، ربما تنتمي إلى بورجوازية أصيلة، وربما تنشأ من ثراء فاحش ومفاجئ.
الفقر قاتل، يؤدّي بناسه، غالباً إلى أفعالٍ يرفضها ناسه أصلاً. التغلّب عليه مرير وقاسٍ، يُدخل الساعين إلى غلبته في متاهاتٍ شتّى. هذا حاصلٌ في "لما بنتولد"، وفيه أيضاً حبّ معطوبٌ، لانتماء كلّ واحد من العاشِقَين إلى دين. الحبّ مُعطَّل، فالاختلاف الديني أقوى من أي شعور عاطفي ورغبة في التمرّد على قوانين اجتماعية جائرة. والهجرة قدر، وإنْ يتناولها "لما بنتولد" بشكلٍ عابر، مكتفياً بالإشارة إليها سريعا. إحدى تلك الإشارات متأتية من رغبة العاشق في الخروج من البلد رفقة حبيبته، حيث لا أحد يُحاسِب أحدا بسبب دين أو طائفة أو مذهب أو طبقة اجتماعية؛ أو من هجرة شقيقة العاشقة، كي تنجو بنفسها من صرامة العيش في بيئتها.
الانصراف إلى الموسيقى دونه عقبة تسلّط أبوي، تنكشف خفاياه لاحقا فيظهر نوعٌ من تطمينٍ على عطفٍ أبوي مخبّأ، إذْ يبدو النص (سيناريو الراحلة نادين شمس) مهموما بتخفيف حدّة النزاعات، بجعل الأب المتسلّط متنبّها إلى موهبة ابنه الوحيد في الموسيقى والغناء، ومتابعا اشتغالاته، رغم رفضه "العلنيّ" الصارم لانصراف وحيده إليهما، ورغم سعيه الدؤوب إلى "إرغامه" على تولّي مسؤولية الشركة الخاصة.
والفقر يؤدّي إلى خياراتٍ، بعضها خطر وبائس. مع الثنائي شمس ـ عزّت، يختبر الفقرُ مُصابين به عبر دفع أمين (عمرو عابد)، المتزوّج من عايدة (ابتهال الصريطي)، إلى "بيع" جسده لسيداتٍ منتميات إلى "المجتمع المخمليّ"، يرغبن بمُتعٍ محروماتٍ منها بسبب غياب أزاوجهنّ، سفرا أو موتا أو انشغالاتٍ مهنية أو علاقات جانبية أو لامبالاة. لكن الثراء عاجزٌ عن إقناع أحمد (أمير عيد) بأولوية المال على موهبة أو حِرفية، فالموسيقى والغناء أهمّ، وتجربة السفر في جولة فنية أهمّ أيضا، فالأفق واسع، والحلم يتحقّق. والثراء نفسه يجعل سيدات عديدات في مهبّ الريح: فهنّ محتاجات إلى متع جسدية، يؤمّنها المال لهنّ، لكنهنّ يبقين فاقداتٍ مشاعر وانفعالات وأمان حقيقيّ، فبعضهنّ غارقات في صراعات دائمة مع أزواج بعيدين، ما يدفع هذا البعض إلى استغلال فقراء (أمين) في تلك الصراعات.
أما الحبّ، فيصطدم بكون فرح (سلمى حسن) قبطية، وابنة عائلة يبدو أنّها منتمية إلى طبقة اجتماعية وسطى؛ وبكون أسامة (محمد حاتم) مسلما، ينتمي إلى طبقة غير واضحة الملامح كلّيا. بينما أمين، المسلم الفقير، فعاجز عن تلبية حاجات عائلته، المكوّنة من أم (أمينة السباعي) وجدّ (مصطفى درويش) وشقيق يُدعى ميدو (فارس حداد)، بالإضافة إلى عايدة، ما يجعل صدامه مع الحياة قاسيا، كاصطدام أسامة بعائق الدين. وهذا يجعله "بائع ملذّات" لسيّداتٍ، يدفعن مبالغ طائلة لمتعة أو لانتقامٍ أو لتسلية أو لتشاوف طبقي حاقد. وأحمد يواجِه والده البالتاجي (سامح الصريطي)، المُتعَب والمريض، بهدوء، متمسّكا بحقّه في خياراته الحياتية. لكنه يكتشف لاحقا أنّ في والده كمّا من الحبّ والاهتمام غير ظاهرين أمامه.
التفاصيل عديدة. الحكايات متداخلة بعضها ببعض، وإنْ بطريقة مرتبكة وغير متساوية في حيّزها الدرامي. لكنها حكايات واقعية، ومخاطرها تخنق أناسا يريدون خروجا من حصار يحول دون عيشٍ طبيعي. إدخال فواصل غنائية ميلٌ إلى مزج سينما الغناء والموسيقى بدراما عاطفية وانشغالٍ اجتماعي. التوفيق بين أنواع سينمائية عديدة في فيلم واحد دونه تحدّيات ومصاعب. في "لما بنتولد"، يُصبح التوفيق محاولة لتبيان معالم بيئة، ومصائب أفراد.
البساطة سمة الفيلم. هذا يعني أنْ لا ادّعاء ولا تصنّعا ولا استسهالا. البساطة سلسة، تكشف أكثر مما تُعلِّق، وتلتقط الواقع أكثر مما تُحيله إلى تشريحٍ.