23 أكتوبر 2024
"فوبيا كورونا"
ماذا لو تحوّل فيروس كورونا إلى نوعٍ من الفوبيا الجديدة، لتخويف الشعوب من أجل التحكّم فيها، وتخويف الدول لإعادة صياغة نظام عالمي جديد، تصنعه القوى التي سوف تخرج رابحةً من الأزمة الحالية؟ هذه الأسئلة لم تعد مجرّد فرضياتٍ حول ما يمكن أن يحدُث في المستقبل، وإنما باتت همّا آنيا وذاتيا، يحمله كل واحد منا يشعر بأن انتهاك خصوصيته قد يصبح أمرا واقعا لا مفر منه.
تدرس اليوم حكومات عديدة اعتماد تطبيقات للهواتف المحمولة، من شأنها تسهيل عملية تتبع تنقلات الأشخاص المصابين بفيروس كوفيد ـ 19 وحركتهم، إذ يُعتقد أن من شأن اعتماد هذه التطبيقات التي تتيح للسلطات الصحية الإطلاع على بياناتنا الصحية الخاصة أن يساعد على الحد من انتشار الوباء والسيطرة عليه. وقد تم فعلا اعتماد مثل هذه التطبيقات في الصين وفي كوريا الجنوبية وفي سنغافورة وأتت أٌكلها، وفي تايوان وروسيا بدأ تفعيل مبدأ المراقبة الرقمية على الأشخاص الموجودين في الحجْر الصحي لإلزامهم بالتقيد بالتعليمات الطبية. وفي إسرائيل، أقرّت رسميا استعمال مخابراتها الوسائل الرقمية التي تستخدمها بغرض مكافحة ما تصفه بـ "الإرهاب" لترصد حاملي الفيروس، وتحديد من اتصلوا بهم. وهناك دول أخرى، ومنها غربية ديمقراطية مثل بريطانيا، يتم فيها العمل على تطوير تطبيق لتتبع حالات المصابين. وفي ألمانيا، الدولة الأكثر وعيًا بالخصوصية في الغرب، يحتدم الجدل بشأن عزم الحكومة اعتماد تطبيقاتٍ ترصد حركة الأشخاص المصابين واتصالاتهم. يبدو أن العالم كله يتجه نحو تطبيق النموذج الصيني في مراقبة مواطنيه، وتتبع حركاتهم وسكناتهم.
لا شك، لمثل هذه التطبيقات فوائد أكدت فعاليتها للحد من انتشار الوباء، لأنها تحدّد مكان
الأشخاص المصابين وترصد تحركاتهم واتصالاتهم، ولكن المعادلة التي تفرضها علينا مواجهة هذا الوباء ما زالت تجد أمامها معارضةً كثيرة، لأنها تضعنا أمام خيار صعب ما بين حريتنا وصحتنا، وما بين حرية حركتنا وبقائنا في الحجْر الصحي إلى أجل غير مسمى، مع العواقب الاقتصادية الكبيرة لذلك على كل واحد منا.
وفي عالمنا العربي، ما زال النقاش في هذه المواضيع التي لها علاقة بموضوع الخصوصية فاترا، خصوصا في ظل هواجس الخوف المبالغ فيها، أحيانا، من وسائل الإعلام، بحيث أصبح ناسٌ كثيرون مستعدين للتضحية بخصوصيتهم من أجل حماية صحتهم أو فقط لاستعادة أسلوب حياتهم السابقة، ولكن دعاة الخصوصية يبدون تخوّفا مشروعا من استغلال الحكومات حالة الخوف، أو ما يمكن وصفها بـ "فوبيا كورونا" لانتهاك خصوصيتنا، وفرض أشكال جديدة من المراقبة الشخصية، بما يمهد لبناء دولة المراقبة البيولوجية والسياسية.
يبدو أننا في طريقنا إلى الاقتناع بضرورة التعايش مع هذا الوباء، كما تعايشت الإنسانية في كل العصور مع عدة أوبئة ما زالت تفتك بالبشرية، وقد يزول أو ينخفض مستوى الخوف من المرض، ويصبح مرضا عاديا بعدما تنتصر غريزة الحياة المزروعة في أعماق النفس البشرية على الخوف من الموت. وسوف يعتاد الناس التعايش مع الفيروس على الرغم من خطورته، لكن هناك فيروسا آخر أكثر خطورة من الفيروس الفتاك نفسه، إنه فيروس "فوبيا كورونا" الذي قد تستغله سلطات وحكومات لترهيب مواطنيها وتخويفهم، لفرض مزيد من التضييق على الحياة الخاصة للأشخاص، ومزيد من القيود على حرّية الناس وحركتهم.
لقد تم تجريب الخوف والرٌّهاب نفسه من "فوبيا الإرهاب"، قبل عقدين، لفرض إجراءات تضيّق
على الناس حريتهم، وتقيّد تحركاتهم، وتتجسس على حياتهم الخاصة، وأصبحت مراقبة الناس في المطارات وتفتيشهم بطريقة مهينة، أحيانا، سلوكا يوميا نتقبله ونتسامح معه، بدعوى حماية أمننا. ولكن ما نحن مقبلون عليه أشد خطورةً مما جرّبناه سابقا، لأن كل واحد منا سيصبح مشتبها بحمله فيروسا قاتلا، إذا لم يسمح باختراق خصوصيته، وفي واحد من أكثر أجزائها حساسية، أي صحته، فخطورة انتهاك خصوصية الشخص، خصوصا صحته، تكمن في مدى تأثير ذلك على حياته ومستقبله، إذا افترضنا التهديدات المحتملة لحياته، عندما تستغل تلك البيانات بطريقة مضرّة من مشغلّه أو بنكه أو شركة تأمينه، أو لمراقبته من الشرطة.
نحن مقبلون على نهاية عصر الخصوصية باعتبارها حقا أساسيا، وسبق لعدة كتاب ومفكرين غربيين كبار أن حذّروا من مخاطر سطوة الثورة الرقمية على حياتنا الخاصة، لأنها تجعل ذواتنا مكشوفة ومتاحة. وفي هذا السياق، يجب التذكير بمؤلف الألماني أندرياس برنارد، "انتهاء عصر الخصوصية"، الصادرة ترجمته إلى العربية هذا العام، والذي يتناول تأثير الثقافة الرقمية على حياتنا الخاصة، وتغلغلها إلى حميميتنا، انطلاقا من تحديد مكان وجودنا إلى قياس ذبذبات جسمنا. كما سبق للفرنسي جاك أتالي أن كتب عام 2013، محذّرا من ميلاد ما وصفها بـ "دكتاتورية الشفافية"، والتي قد تجعل ما قبلها مجرّد قوس أغلق. وفي المقال نفسه، توقع أتالي أن يأتي اليوم الذي ستتم فيه مضاعفة وسائل المراقبة الرقمية، ما سيجعل من الممكن معرفة ميولنا عند التبضع وحالتنا الصحية وقدراتنا المهنية وتسهيل مراقبتنا من الشرطة. وبرأي هذا الكاتب الذي سبق أن شغل منصب مستشار الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران، ستكون عواقب "دكتاتورية الشفافية" وخيمة، بحيث "سيكون من الصعب، أكثر فأكثر، إخفاء ما يعتقده الآخرون عنا".
فعلا نحن نمر بأوقات غريبة، لأننا أصبحنا متّهمين إلى أن نثبت براءتنا من كوننا حاملين فيروسات قاتلة، وأكثر من ذلك مهووسين بالإصابة بالعدوى في كل وقت ومكان، ومن كل كائن كان، وهو ما سيجعلنا نقدّم طوعا كل التنازلات التي تُطلب منا. نحن أمام تهديد نوع جديد من "العبودية الطوعية"، "عبودية رقمية"، تسود فيها الطاعة العمياء وغير المشروطة لدكتاتورية المراقبة الرقمية على أدقّ تفاصيل حياتنا الخصوصية. ولا يجب أن نستغرب قدرتنا على التطبيع مع حياتنا الجديدة، وأكثر من ذلك الشعور من جديد بحرّيتنا التي نتنازل عنها تدريجيا وطوعيا، ونحن نعتقد أننا ما زلنا أحرارا!
لا شك، لمثل هذه التطبيقات فوائد أكدت فعاليتها للحد من انتشار الوباء، لأنها تحدّد مكان
وفي عالمنا العربي، ما زال النقاش في هذه المواضيع التي لها علاقة بموضوع الخصوصية فاترا، خصوصا في ظل هواجس الخوف المبالغ فيها، أحيانا، من وسائل الإعلام، بحيث أصبح ناسٌ كثيرون مستعدين للتضحية بخصوصيتهم من أجل حماية صحتهم أو فقط لاستعادة أسلوب حياتهم السابقة، ولكن دعاة الخصوصية يبدون تخوّفا مشروعا من استغلال الحكومات حالة الخوف، أو ما يمكن وصفها بـ "فوبيا كورونا" لانتهاك خصوصيتنا، وفرض أشكال جديدة من المراقبة الشخصية، بما يمهد لبناء دولة المراقبة البيولوجية والسياسية.
يبدو أننا في طريقنا إلى الاقتناع بضرورة التعايش مع هذا الوباء، كما تعايشت الإنسانية في كل العصور مع عدة أوبئة ما زالت تفتك بالبشرية، وقد يزول أو ينخفض مستوى الخوف من المرض، ويصبح مرضا عاديا بعدما تنتصر غريزة الحياة المزروعة في أعماق النفس البشرية على الخوف من الموت. وسوف يعتاد الناس التعايش مع الفيروس على الرغم من خطورته، لكن هناك فيروسا آخر أكثر خطورة من الفيروس الفتاك نفسه، إنه فيروس "فوبيا كورونا" الذي قد تستغله سلطات وحكومات لترهيب مواطنيها وتخويفهم، لفرض مزيد من التضييق على الحياة الخاصة للأشخاص، ومزيد من القيود على حرّية الناس وحركتهم.
لقد تم تجريب الخوف والرٌّهاب نفسه من "فوبيا الإرهاب"، قبل عقدين، لفرض إجراءات تضيّق
نحن مقبلون على نهاية عصر الخصوصية باعتبارها حقا أساسيا، وسبق لعدة كتاب ومفكرين غربيين كبار أن حذّروا من مخاطر سطوة الثورة الرقمية على حياتنا الخاصة، لأنها تجعل ذواتنا مكشوفة ومتاحة. وفي هذا السياق، يجب التذكير بمؤلف الألماني أندرياس برنارد، "انتهاء عصر الخصوصية"، الصادرة ترجمته إلى العربية هذا العام، والذي يتناول تأثير الثقافة الرقمية على حياتنا الخاصة، وتغلغلها إلى حميميتنا، انطلاقا من تحديد مكان وجودنا إلى قياس ذبذبات جسمنا. كما سبق للفرنسي جاك أتالي أن كتب عام 2013، محذّرا من ميلاد ما وصفها بـ "دكتاتورية الشفافية"، والتي قد تجعل ما قبلها مجرّد قوس أغلق. وفي المقال نفسه، توقع أتالي أن يأتي اليوم الذي ستتم فيه مضاعفة وسائل المراقبة الرقمية، ما سيجعل من الممكن معرفة ميولنا عند التبضع وحالتنا الصحية وقدراتنا المهنية وتسهيل مراقبتنا من الشرطة. وبرأي هذا الكاتب الذي سبق أن شغل منصب مستشار الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران، ستكون عواقب "دكتاتورية الشفافية" وخيمة، بحيث "سيكون من الصعب، أكثر فأكثر، إخفاء ما يعتقده الآخرون عنا".
فعلا نحن نمر بأوقات غريبة، لأننا أصبحنا متّهمين إلى أن نثبت براءتنا من كوننا حاملين فيروسات قاتلة، وأكثر من ذلك مهووسين بالإصابة بالعدوى في كل وقت ومكان، ومن كل كائن كان، وهو ما سيجعلنا نقدّم طوعا كل التنازلات التي تُطلب منا. نحن أمام تهديد نوع جديد من "العبودية الطوعية"، "عبودية رقمية"، تسود فيها الطاعة العمياء وغير المشروطة لدكتاتورية المراقبة الرقمية على أدقّ تفاصيل حياتنا الخصوصية. ولا يجب أن نستغرب قدرتنا على التطبيع مع حياتنا الجديدة، وأكثر من ذلك الشعور من جديد بحرّيتنا التي نتنازل عنها تدريجيا وطوعيا، ونحن نعتقد أننا ما زلنا أحرارا!