"فسحة أمل"

19 ابريل 2016

واجهة الموقع الإلكتروني "فسحة أمل" عن المفقودين في لبنان

+ الخط -

الميتُ ما لم يدفن لا يموت. إنّ رؤية الميت والبكاء عليه، وإتمام طقوس الوداع والعزاء، هي ما يجعل فكرة الموت والفقد غير المحتملة تجد طريقها إلى عقول أهله ومحبّيه. أما المفقود، أي ذاك الذي اختفى، أو ضاع، بعد أن قُصّ شريطُ حياته عنوةً، في لحظةٍ ما، في موضعٍ ما، ولم يُعرف عن مصيره، فيبقى هائماً ما بين بين، فلا هو ميت ولا هو حيّ. إنه في نيغاتيف الصورة وانعكاسها في المرآة، في فسحة من الشوق والغياب وشقاء أسئلةٍ معلّقة، وكوابيس قتل وتقطيع وتعذيب على أيدي مصّاصي دماء، تحفل بهم الحروب الأهلية عامة.

وحين تمضي الحربُ التي خطفت أحباءنا، وكانت ذريعة عدم التوصّل إلى كشف الحقيقة، يزداد الوجع والحريق، وقد تيقّنا أن المسافة التي تبعدنا عنهم تزداد، وأن ملامحهم في الصور التي نرفعها، ونعانقها ونقبّلها كبدائل عنهم، باتت إلى تحلّل واختفاء، وأننا لم نعد نملك منهم إلا أسماء لن تخبر عنهم الكثير، وستنزل ذات يوم قريب معنا إلى القبور. حينها، نجلس لنفكّر في ما عساه يحفظهم من الاندثار والامّحاء، يستبقي ذكراهم، ويجعل من سيأتون من بعدنا يتابعون مثلنا البحث والانتظار؟ أن نحيي قصصهم، أجل، بأن نرويها وندوّنها حبراً على ورق، ونجعلها في متناول أكبر عدد من الأشخاص، بانتظار أن يعودوا، أحياء أو موتى لا يهمّ، مكتملين أو منقوصين، لا يهمّ. المهمّ هو أن تتمّ الحكاية، فنغمض أعينهم، وننام.

في لبنان، 17 ألف مفقود ومخطوف لا يعرف أهاليهم عنهم شيئاً. 17 ألف من يتامى دولة مستقيلة من واجباتها، وقد تخلّت عن أبنائها هؤلاء، وتركت أهاليهم يعالجون مآسيهم بأيديهم. عام 1982، بدأ نضال الأهالي بـأن تجمعوا في "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان" التي راحت تطالب بالكشف عن مصائر جميع المفقودين والمخطوفين والمخفيين قسرياً منذ بداية الحرب (إبريل/ نيسان 1975)، وحتى تاريخ الإعلان عن انتهاء الحرب. عام 1990، أنشئت لجنة دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين (سوليد) التي احتضنت لجنة أهالي المعتقلين في السجون السورية. عام 2000، باشرت لجنة الأهالي و"سوليد" التنسيق الجادّ بينهما إلى أن توحّدت تحركاتهما مع إقامتهما خيمة اعتصام في ربيع 2005، وهي ما زالت قائمة، إلا أن الإنجاز الأهم الذي حققه الأهالي فهو صدور قرار قضائي عام 2014، عن مجلس شورى الدولة، ألزم الدولة بتسليمهم نسخة عن التقرير الذي أجرته اللجنة الرسمية للتقصي عن أبنائهم، من دون أي تقييد أو انتقاص أو استثناء، فأرسلوها لكي تُحفظ أمانة لدى البعثة الدولية للصليب الأحمر في جنيف.

ولترجمة القرار القضائي المذكور، يدعو الأهالي إلى جمع العينات البيولوجية (DNA) من أهالي المفقودين وحفظها، للتعرّف على هويات الرفات، إن وُجِدتْ، وإقرار اقتراح قانون حول المفقودين والمخفيين قسرياً، موجود لدى اللجنة النيابية لحقوق الإنسان.

وأخيراً، أنشأت جمعية "لنعمل من أجل المفقودين" فضاءً رقمياً تفاعلياً، "فسحة أمل"، مساحة تجمع أقارب المفقودين معاً، بالإضافة إلى إشراك الأجيال الصاعدة وجميع المواطنين الذين هم راغبون أن يساهموا في هذا الجهد الجماعي. ويقول منشئوه "فسحة أمل هي أكثر من مجرد مخْزن رقمي للمعلومات عن الأشخاص المفقودين في لبنان، إذ أن الغرض هو أن تكون مِنصّة تفاعلية تُؤَمِّنُ فرصة المشاركة لأي شخص يرغب"... نحن نقوم "بتدريب المتطوعين الشباب لإجراء مقابلاتٍ مع أقارب المفقودين وجمع المعلومات اللازمة لخلق مساحة لأحبائهم على شبكة الإنترنت... إن فسحة أمل هي مِنبَر لمنظمات المجتمع المدني لدعم وتضخيم أصوات الأقارب المطالِبة باعتراف وطني بالقضية وبحق الأهالي بمعرفة المصير".

على صفحة الموقع الرئيسة، هذه الجملة التي تقول الكثير: إلى آلاف المفقودين الذين يبقى مصيرهم غير معروف، لن نسمح لقصصكم أن تنتهي.

أجل، هي فسحة أمل

 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"