"فتيات التيك توك" .. سؤال الأخلاق والأزمة الاجتماعية

05 اغسطس 2020
+ الخط -

بدأت القضية المعروفة إعلاميا في مصر بفتيات التيك توك قبل ثلاثة أشهر، بالقبض على حنين حسام، والتي واجهت تهم الاتجار بالبشر، والتحريض على الفسق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيما يشبه حملة أمنية. وجهت تهم مخالفة الآداب العامة، ونشر محتوى خادش للحياء، إلى أخريات. وتم تحويل بعضهن إلى المحاكمة، استنادا إلى قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات (رقم 175 لسنة 2018)، والذي شُرّع بالأساس لضبط الفضاء الإلكتروني، بما فيه وسائل التواصل الاجتماعي. وصدرت في 27 الشهر الماضي (يوليو/ تموز) أحكام أولية بالحبس عامين، وغرامة 300 ألف جنيه، ضد بعضهن، بموجب المادتين 25 و26. تختص الأولى بالتعدّي على مبادئ الأسرة وقيمها. وتعاقب الثانية من استعمل برنامجا معلوماتيا لمعالجة محتوى منافٍ للآداب بالسجن مدة لا تقل عن سنتين ولا تجاوز خمس سنوات، وبغرامةٍ لا تقل عن مائة ألف جنيه (مصري) ولا تتجاوز 300 ألف. بالقانون نفسه، قدّم للتحقيق بداية العام الحالي (2020) مواطنون مصريون بتهم نشر أخبار كاذبة، غير تقنين إجراءات حجب المواقع الإلكترونية، وفقا للمادتين السابعة والثامنة. وليست "قضية فتيات التيك توك" منفصلة عن فلسفة القانون التي تسعى لضبط الفضاء الإلكتروني، بوصفه المقابل للفضاء العام. وفي السياق توظف الإدانة المجتمعية للمحتوى أداةً للقبول بالضبط، وهو ما يؤشر إلى أن الحملة إن خفتت ستعود مرة أخرى.

وتتقاطع في المشهد زوايا سياسية واقتصادية واجتماعية، فهناك علاقة السلطوية بمسألة الضبط الأخلاقي، والتي تدعم شرعيتها عند فئات محافظة، فضلاً عن تعزيز صورة نمطية حول المحتوى الإلكتروني، بوصفه شبحا يهدّد قيم المجتمع وينشر الفوضى، وإن ضبط المحتوى ضرورة لحفظ الأمن القومي والمجتمعي. يؤثر ذلك في توسيع مساحات القبول لآليات الضبط السياسي والاجتماعي، بوصف أن الممارسة السياسية جزء من البنية الاجتماعية.

إذا كان المجتمع المصري في حاجة إلى الإصلاح الاجتماعي، فإن العقاب القانوني يتخذ أحيانا موقعاً متأخراً

يدعم ربط القانون بالأخلاق والقيم الدينية شرعية السلطة في بعض النظم السياسية. هناك تجارب تكثّف استخدام معايير مجتمعية وأخلاقية، والتحكّم في السلوك الشخصي حتى الزي. شرطة الأخلاق في إيران وجماعة الأمر بالمعروف في العربية السعودية نموذجان على هذا، وقد بدأتا، على الرغم من أهميتهما في بنية النظام، تخفّفان قيودهما. ويوظّف أيضا المبرّر الأخلاقي في دعم قوانين تتعقب المحتوى الإلكتروني لزيادة الضبط السياسي، وتعميق دور السلطة بوصفها منظمة وضابطة لكل فعل له صفة العمومية.

من يتتبع حالات المتهمات من "فتيات التيك توك" يجد أغلبهن في سن العشرينات، ومن أصول اجتماعية بسيطة، متمرّدات على أوضاعهن الطبقية والاجتماعية والثقافية، تمرّدا فرديا ضد جوهر التراتبية ومناحيها، ويحاولن تجاوزها، مستخدماتٍ رموزا مثل صور وسبل للعيش مختلفة مع انتمائهم الطبقية. يهربن من مساحات التهميش، يُنتجن محتوى حاز اهتمام ملايين، تكونت بذلك لديهم شبكة علاقات افتراضية، ونفوذ معنوي وقدرة على توظيف ذلك في تحقيق ربح من الإعلانات، وسوق إنتاج المحتوى الإلكتروني يتنافس فيه المنتجون على الجمهور. وقد حرّض بعض مشاهير "يوتيوب" وإعلاميون ومحامون على الطالبة حنين حسام، ودارت بينها وبين المتنافسين معها سجالاتٌ وصلت إلى محطات الاتهام، وتوالت البلاغات. وكما المواد المنتقدة السياسات تحاصرها السلطة وتجرّمها، فإن بعض محتويات "التيك توك" يقع تحت سلطة اجتماعية، ويشملها قانون جرائم الإنترنت، يتضح الاتصال بين الضبط الاجتماعي والسياسي، فالأول ينطلق من الأعراف ومقاييس مجتمعية، والثاني يوظف الأول في إنفاذ القانون في أحيان كثيرة.

هناك علاقة السلطوية بمسألة الضبط الأخلاقي، والتي تدعم شرعيتها عند فئات محافظة، فضلاً عن تعزيز صورة نمطية حول المحتوى الإلكتروني، بوصفه شبحا يهدّد قيم المجتمع

تطرح قضية "فتيات التيك توك" السؤال بشأن الشعارات الأخلاقية، وما إذا كانت مرتبطةً وحسب بالمحتوى الذي وصف بأنه يحرّض على الفسق والفجور، أم أن منظومة العدالة والأخلاق والقيم أشمل، لو اعتبرنا أن بعض المحتوى غير لائق، ويوجّه إلى أطفال ومراهقين وبتقدير خطورته ذلك، هل يمكن معالجة الأزمة بالحبس والغرامات المالية؟ ويرتبط المحتوى الذي يمثل لبعضهم فجورا وفسوقا بسياق أزمة اجتماعية أوسع، وأحيانا يكون لدى بعضهم نمط حياة خاص. وفي السياق، أليس اتساع مستوى جرائم الأسرة والتحرّش والعنف مخيفا؟ وماذا عن العنف المسكوت عنه، ألا يحتاج مراجعةً ليكون الأمر أيضا أخلاقيا؟

إذا كان المجتمع المصري في حاجة إلى الإصلاح الاجتماعي، فإن العقاب القانوني يتخذ أحيانا موقعا متأخرا، ويكون الأقل تأثيرا، بالإضافة إلى أن من متطلبات الإصلاح الضرورية إقرار العدالة، وتناسب العقاب مع الجرم في أي قضية، وخلو القواعد والسياسات والتقييم من أي تمييز اجتماعي وطبقي. ماذا لو كانت إحدى "فتيات التيك توك" من بين الراقصات أمام لجان الانتخابات، هل كان "خدش الحياء" سيأخذ بعدا وطنيا مرضيا عنه؟

وإجمالا، تشكل قضية "فتيات التيك توك" فرصة لتوسيع استخدام قوانين تسيطر على المحتوى الإلكتروني، غير أنه يساهم في وصم المحتوى عموما، وتصويره أنه يعتدي على القيم الأسرية والأخلاقية، كما يكسب المشهد سلطة إنفاذ القانون شرعية وتأييدا عبر مفاهيم الحفاظ على القيم والأخلاق، غير ما يستحوذ المشهد على اهتمام الرأي العام وإشغال له.

إلى جانب ذلك، يدلل المشهد على ترسيخ مفاهيم التراتبية الاجتماعية، ودعم الجدار الحاجز بين الفئات الطبقية والانتماءات الثقافية، على الرغم مما يتيحه التقدم التكنولوجي من فرص تأثير وتأثر واتصال، لكن التراتبية على أساس الطبقة وامتلاك النفوذ (وأحيانا النوع) تتحدى الوصول إلى الموارد، بما فيها استخدام الرموز والتقنية، تصبح الإتاحة قاصرةً على طبقة وفئات بعينها.

من متطلبات الإصلاح الضرورية إقرار العدالة، وتناسب العقاب مع الجرم في أي قضية، وخلو القواعد والسياسات والتقييم من أي تمييز اجتماعي وطبقي

ليس مسموحا بالنسبة لفتيات "التيك توك" وأمثالهن المقبوض عليهن، وبغض النظر عن المحتوى الذى يتشابه مع محتوى لآخرين لم يتم تجريمه، أن تتخطّى واحدة منهن طبقتها الاجتماعية، ومساحة حركتها في حي شبرا في القاهرة أو كفر شكر في القليوبية، مثالين للتهميش والاستبعاد من مركزية المدينة والطبقة وعلاقة النفوذ، هناك أشخاص في شبكات اجتماعية حقيقية تمتلك النفوذ لا يُحاسبون، حتى لو انتهكوا القواعد الأخلاقية تلك، ليس أيضا بمقدور "فتيات التيك توك" مغادرة التهميش الاجتماعي، أو تتصوّر واحدة منهن أنها تمتلك شبكة علاقات تمثل نفوذا، ولو من خلال متابعة الملايين على حساب إلكتروني، فالتراتبية الاجتماعية مقدسة، تقيد الحركة والفعل، وحتى الخطاب. وليس الأمر قاصرا هنا على الضبط السياسي، ضبط الأجساد وعقابها وارد في الفضاء الإلكتروني، حتى لو لم يكن مسيسا. يكفي أنه حاول تجاوز أسوار التراتبية، لم يكن في خدمتها، إن أردنا الدقة، ويقدّم خطابا يمجّدها، بل حاول الصدام معها بشكل فردي.

رقص العاديين إن لم يكن مستساغا "أخلاقيا" على الأقل يكون في مجرى "الوطنية"

الإقصاء الاجتماعي أيضا لا يغادر ساحات الفضاء الإلكتروني، أحلام النجومية والانتشار، وبث محتوى إلكتروني وتوزيعه، والخروج من مساحاتٍ محدودة لفتياتٍ من فئات طبقية بسيطة، يمكن اعتبارها تمرّدا يستحق العقاب، حتى لو لم يكن مشروعا جماعيا تقدّميا، وإن كان فرديا وهدفه الربح. يبقى مشهد النجوم الرسميين أو الفئات ذوي العلاقة بالنخب الحاكمة مسموحا به، حتى لو كان المحتوى رقصا. أما الآخرون فيجب أن يكون الرقص لديهم منضبط الإيقاع، مشمولا بدفع الثمن، التوظيف، الاتهام، المصادرة، الضرائب، .. لا بد من أن يوظف الرقص في خدمة التراتبية وذوي النفوذ، أن يكون خدمة للغير، لا تعبيرا فرديا منزوع السياق عن موقع طبقي وثقافي. لا بد أن يكون مرتبطا بالمنظومة الاجتماعية، رقص أصحاب النفوذ شيء مغاير، رقص العاديين إن لم يكن مستساغا "أخلاقيا" على الأقل يكون في مجرى "الوطنية"، انتخابات مجلس الشورى قادمة، ارقصوا هناك بأمان.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".