"عناصر غير منضبطة" في العراق

29 يوليو 2015

استعراض لمليشيا الحشد الشعبي بالعراق ضمن فعاليات يوم القدس

+ الخط -
خمسون مليشيا وأكثر تتسيّد المشهد السياسي والأمني في العراق، تتسلط وتحكم، تقرر وتنفذ، ليس هناك رقعة لا تخضع لتأثير هذه المليشيا أو تلك ونفوذها وسلطتها. لكل مليشيا إدارتها وسلطتها ومحاكمها وسجونها، لا تسألني: أين الدولة؟ ليس ثمة دولة، لمعظم الوزراء والنواب مليشياتهم التي تتبعهم أو يتبعونها، وحتى رئيس الجمهورية لا يستطيع أن يمارس عمله من دون حماية أفراد من مليشيا كردية تابعة لحزبه. المواطن العادي يعرف هذه الحقيقة ويواجهها يوميا، وقد اعتاد في تصريف شؤونه أن يبحث عن "مليشياوي"، يسهّل له أموره، ويضمن له قدرا من الحماية! 
وكما "المافيات" العالمية في مجال تهريب المخدرات، أو الاتجار بالسلاح، أو بيع البشر، فإن "المليشيات" العراقية، هي الأخرى، تعمل في مجالات الاقتصاد والتجارة والإعلام، تقتسم السيطرة على المنافذ الحدودية، لا بضاعة تدخل أو تخرج من دونها، لا عقود عمل، ولا مقاولات، ولا مشاريع استثمار، من دون تدخلها، تهريب النفط شرقاً وغرباً بإشرافها، حق شراء "الدولار" وبيعه محفوظ لرجالها، تبييض الأموال تحت حمايتها، الصحف والفضائيات في قبضة يدها عبر الإغراء والإغواء والتهديد، أكثر من ذلك كله وأخطر، تغييب البشر المناوئين لها، وسلب أموالهم، وحرق بيوتهم أو تدميرها، كل ذلك يتم بكلمة منها.

ووسط هذه "الفوضى الخلاقة"، يتم تبرير ما يحدث، بإلقاء المسؤولية على خصوم "العملية السياسية" ومعارضيها، وإظهار المرجعيات الدينية والسياسية بمظهر البريء، أو غير العالم بما يجري، وإلصاق الخطايا بعناصر "مندسة"، تحاول الإساءة للتجربة "الديمقراطية" في البلاد، وعندما يطفح الكيل، ويسود التذمر والسخط الأوساط الشعبية التي تعاني من انعدام الأمن، ونقص الخدمات، وانتشار الفساد والرشوة، نتيجة لسيطرة المليشيات السوداء على كل مرافق الحياة والمجتمع، يبتكر الإعلام الطائفي نغمة جديدة، وتختفي مقولة "العناصر المندسة" لتحل محلها عبارة "العناصر غير المنضبطة". وكلما حدثت واقعة شريرة، قيل إنها من فعل "عناصر غير منضبطة". وفي هذه الحالة، سرعان ما يجري إهمالها، والسعي إلى محوها من الذاكرة العامة. وقد بدأت حكايات "العناصر غير المنضبطة" بعد معركة صلاح الدين، حيث وصفت أحداث ما بعد انسحاب "داعش" والانتهاكات التي مورست هناك بأنها من فعل "عناصر غير منضبطة". وفي "النخيب" في محافظة الأنبار، أحرقت عشرات المنازل، وقيل إن ذلك تم بفعل "عناصر غير منضبطة، وفي "فيديو" على "يوتيوب" ظهرت "عناصر غير منضبطة"، وهي تقتاد عشرات من "أولاد عمر"، كما كانت تناديهم. وفي النجف، قامت "عناصر غير منضبطة" من شرطتها بتعذيب شباب لإجبارهم على التوقيع على إفادات تدينهم بارتكاب جرائم لم يرتكبوها. وفي البصرة قتل رجال أمن "غير منضبطين" شاباً، وجرحوا آخرين تظاهروا احتجاجاً على سوء الخدمات!
وما تفتأ مواقع تواصل اجتماعي تتندر بحكاياتٍ، أبطالها أبناء أو أشقاء مسؤولين "غير منضبطين"، ارتكبوا مخالفات، وحتى جرائم يطاولها القانون، من بين ذلك حكاية الأمر الذي أصدره ابن "غير منضبط" لوزير النقل السابق بمنع طائرة لبنانية من الهبوط في مطار بغداد، أو ظهور اسم شقيق لوزير الداخلية السابق "غير منضبط" بين أعضاء عصابة خطف في الكاظمية، أو إقدام "عناصر غير منضبطة" من حماية وزير سابق آخر على اقتحام بنك، وسرقة مبالغ مالية منه، والاحتفاظ بها في مقر المليشيا التي تتبع الوزير المذكور، وعشرات الحكايات الأخرى التي تظهر حجم "العناصر غير المنضبطة"، والسلطة التي تتمتع بها، والمساحة التي تتحرك فيها، أحيانا بمشاركة رجال أمن أو عسكر معها، أو حضورهم، مع غض الطرف عما تفعله!
وتطور الحال إلى درجة قيام بعض مسؤولي الدولة الكبار بتصرفات "غير منضبطة"، لها صلة بالمال أو السلاح، أو حتى بالقرارات السيادية، وجديد ما سمعنا به مطالبة نائب رئيس الجمهورية "غير المنضبط"، نوري المالكي، الأمم المتحدة بوضع بلد شقيق يسعى العراق لتطوير العلاقة معه تحت الوصاية الدولية بحجج واهية، واضطرار رئيس الجمهورية للنأي بنفسه عن هذا الموقف!
وهكذا، عندما يصبح "عدم الانضباط" المزعوم ستاراً لارتكاب المخالفات والجرائم، وعندما تصبح المليشيات سيدة الفعل والقرار، فإن البلاد تكون قد فرطت في حضارة خمسة آلاف عام، وتحولت إلى "ولاية بطيخ" ليس أكثر.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"