حين صدرت رواية "عشيقات النذل" للكاتب التونسي، كمال الرياحي، كان منتظرًا أن تكون رواية تجريبية جديدة، إذ إن الرياحي انخرط في تيار التجريب. لكن في أي اتجاه التجريب هذه المرّة؟ الواقعية القذرة أم الأدب الغاضب؟ لا يحفل الرياحي بالتصنيفات، لكأنه يردّد مع محمّد الماغوط بعد التحوير: "التصنيف ليس مهنتي".
ليس بإمكان الرياحي نفي أن ما كتبه وليد الأزمة. فكيف نجا الرياحي الشاعر والمسرحي والسينمائي والرسام وصديق المهمشين من فخّ حواسه ومواهبه المتعددة؟ ليقدّم عشيقات ونذل وأماكن ولغة قاع، وثأر وجريمة وبذاءة وسخرية وقارئ حاضر/ غائب؟
حظيت الرواية بحفاوة كبيرة وتصدّرت قائمة المبيعات. "كم بيع منها؟"، سؤالٌ لا يليق إلا بمصلحة الضرائب. فالثابت أنها نفدت من المكتبات ومن معرض الكتاب حين صدورها، ومضت خمسة أشهر منذ تاريخ الصدور، وهي تتجه اليوم إلى تحقيق رقم غير مسبوق في عدد النسخ المباعة، كما أنها تلقى نجاحات في باريس والقاهرة وبيروت والبحرين.
ألِأنَّ الرياحي يعرف تسويق نفسه، وقد ابتكر أسلوبًا جديدًا للتعاطي مع القارئ مباشرة عبر البريد، ما فتح أمام الرواية مجال الأرياف والقرى؟ كيف نصنّف هذه الرواية وهل هناك داع للتصنيف أصلًا؟
حيرة القارئ تتواصل مع كاتب لا يميل إلى "الأدب السعيد".
الرواية محلية بنكهة عالمية تورّط فيها القراء: "لا مكان لرواية لا يكتب القارئ بعض فصولها، ولا معنى لكاتب لا قرّاء له"، هكذا قرر الرياحي، في حواره مع "ملحق الثقافة"، مضيفًا: "أشقى المهمات وأعسرها صناعة قارئ أو استدراجه".
استغلّ الكاتب ثراء حياته وتجربته ليوظّفها بالتعمّق في شخصياته. فقد اشتغل في الزراعة والبناء والتهريب، ثم عمل مساعد مصور، ثم في التدريس والإدارة: "ربما أكون محظوظًا لأني مارست بعض المهن "غير الراقية"، ولم يغب عني هاجس تقمّص شخصياتي التي كثيرًا ما أمارس معها لعبة "أؤنسن" فيها بعضها، و"أشيطن" البعض الآخر منها، وأقترب ببعضها من الأسطورة وضواحيها. المهمّشون أحبابي الذين حاورتهم في رواياتي. عرفت الدم في الجزائر والتهريب والنشالين وعالمهم بين المغرب وتونس".
هذا العالم السفلي، إن جاز القول، يظهر كيف أن الرياحي يتعاطف مع المهمشين والأنذال، إلا أنه غالبًا ما توجه إليه تهمة البذاءة، وخاصة في روايته الأخيرة هذه، حيث تسود لغة القاع فتتكرر مفردات غير مهذبة مع اشتقاقاتها في عشرات المواضع.
اقرأ أيضاً: الكاريكاتيرالتونسي.. الثورة لم تمر من هنا
وعند سؤال "ملحق الثقافة" لورود تلك الألفاظ، أجاب الرياحي: "رواية تعج بالرذيلة والجريمة والأنذال، رواية هند وحياة وإيفو وبوخا ونادية. رواية تنضح شبقًا وتفوح منها رائحة الأجساد المشتهاة والخيانة وروح الثأر والغدر، بأي لغة ستخاطب؟ وكيف ستكون مستويات الحوار؟ ومن أي معجم ستقتات؟ حين يحدّثني البعض عن البذاءة، فإني أتصوّر الجهة المقابلة هي جهة كهنوتية ساكنة. أنا قلقٌ وبذيء أقترف أدبًا، والجهة المقابلة مؤدبة، لكنها لا تنتج إلا ما يوهم بالفضيلة وتطرد الأدب. الأنذال يحرّكون العالم وهم وقود الثورات، ومن دون أنذال لا توجد رواية ولا حياة".
الكل ضدّ الكل في "عشيقات النذل"، والرغبة بالانتقام متوثّبة، والطمع على أشدّه. كلّ شيء غاضب، واللغة متشنجة، لذلك غابت الحوارات الحميمية والعبارات الناعمة مقابل طغيان العبارات النابية البذيئة. إخفاق وخيبة وملاحقة للخيال والبياض والفراغ اللذين استمدّا مشروعيتهما من غياب الأجوبة.
أوهم الرياحي القارئ بأنه كتب رواية بوليسية، في حين تعاطى مع الجريمة بأبعاد فلسفية وتأمّلات اعتمدت الحفر في نفسية الشخصيات. يقول في ذلك: "كيف نستعمل نوعًا أدبيًا شعبيًا لتخريبه من الداخل، كي ننتج شيئًا آخر أعمق من ذاك النوع المتداول والشائع؟ الرواية الحديثة انطلقت من هذا. ماذا فعل سرفانتس في دون كيخوته غير السخرية من أدب الفروسية الذي كان سائدًا؟ سخر منه من الداخل. لا بدّ من السخرية السوداء والتشويق والتخلّص من ترهّل اللغة ونفايات السرد. إن أكبر آفة تصيب الروائي هي تراكم شحوم اللغة وغياب البرنامج السردي مقابل تورّم المشروع الأيديولوجي".
في "عشيقات النذل" مشاهد قصيرة ومكثفة غير مالوفة، رأى البعض أنها تحط من قيمة الرواية، ورأى آخرون أن ذاك هو سرّ قوتها وما ميّزها، لأن فيها دعوة الى المشاركة في الكتابة وملء البياض والفراغ. فالرياحي اختار على ما يبدو قارئًا حرًّا في ملء الفراغ وكان ممتلئًا ثقةً بأنه لن يخذله. ما حتّم السؤال عن القارئ، فأجاب الرياحي: "القارئ كائن أسطوري يظهر مثل الثعبان الذي لا يخرج إلى الصيد إلا متى أدركه الجوع. وشخصية الكاتب المعلّم الناصح الواعظ الذي يعرف كلّ شيء إلى زوال. لا أملك إجابة. أما الكتابة المشهدية فمنطلقاتها البصرية تذكّرك بالمسرح. أكتب بأسلوب خالٍ من الشحوم وأتعاطى رواية نباتية"، ثمّ يضحك وهو يستعرض كيف تخلّى عن الخبز والمعجنات واكتفى بتناول الخضر خلال كتابة الرواية. ثم يضيف "كان ذهني متوقدًا".
المحطة البحرية في تونس وقاعة المونديال ومطعم وحانة نهج مرسيليا وغير ذلك أماكن ارتقت الى مستوى الإلهام، بل إنها ساهمت في تطور الأحداث. فقد تعمّد الكاتب تثبيتها في محليتها، بينما تسابق روائيون آخرون إلى الفخر بأماكن عالمية. أية لعبة مارسها كمال الرياحي وهو يتعاطى مع المحلي والعالمي؟ يقول: "يبقى المكان متخيّلًا. ومن الطرائف أن هناك من أراد زيارة عمارة تونس البحرية فلم يجدها. كافكا لم يزر أميركا حين كتب "أميركا". الفضاء الروائي نتخيّله، لكن اختياري لبعض الأماكن أملته أحداث جدّت. تعرّضت لتمثال ابن خلدون وساعة شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة في روايتي "المشرط" و"الغوريلا" حين كان شارع الحبيب بورقيبة رمز السلطة وشريان الاستبداد، وبعد الثورة كان لا بدّ من الثورة على المركز الذي زالت قدسيته وهربت بالرواية إلى الأزقة التي اختطفت السيادة".
ليس بإمكان الرياحي نفي أن ما كتبه وليد الأزمة. فكيف نجا الرياحي الشاعر والمسرحي والسينمائي والرسام وصديق المهمشين من فخّ حواسه ومواهبه المتعددة؟ ليقدّم عشيقات ونذل وأماكن ولغة قاع، وثأر وجريمة وبذاءة وسخرية وقارئ حاضر/ غائب؟
حظيت الرواية بحفاوة كبيرة وتصدّرت قائمة المبيعات. "كم بيع منها؟"، سؤالٌ لا يليق إلا بمصلحة الضرائب. فالثابت أنها نفدت من المكتبات ومن معرض الكتاب حين صدورها، ومضت خمسة أشهر منذ تاريخ الصدور، وهي تتجه اليوم إلى تحقيق رقم غير مسبوق في عدد النسخ المباعة، كما أنها تلقى نجاحات في باريس والقاهرة وبيروت والبحرين.
ألِأنَّ الرياحي يعرف تسويق نفسه، وقد ابتكر أسلوبًا جديدًا للتعاطي مع القارئ مباشرة عبر البريد، ما فتح أمام الرواية مجال الأرياف والقرى؟ كيف نصنّف هذه الرواية وهل هناك داع للتصنيف أصلًا؟
حيرة القارئ تتواصل مع كاتب لا يميل إلى "الأدب السعيد".
الرواية محلية بنكهة عالمية تورّط فيها القراء: "لا مكان لرواية لا يكتب القارئ بعض فصولها، ولا معنى لكاتب لا قرّاء له"، هكذا قرر الرياحي، في حواره مع "ملحق الثقافة"، مضيفًا: "أشقى المهمات وأعسرها صناعة قارئ أو استدراجه".
استغلّ الكاتب ثراء حياته وتجربته ليوظّفها بالتعمّق في شخصياته. فقد اشتغل في الزراعة والبناء والتهريب، ثم عمل مساعد مصور، ثم في التدريس والإدارة: "ربما أكون محظوظًا لأني مارست بعض المهن "غير الراقية"، ولم يغب عني هاجس تقمّص شخصياتي التي كثيرًا ما أمارس معها لعبة "أؤنسن" فيها بعضها، و"أشيطن" البعض الآخر منها، وأقترب ببعضها من الأسطورة وضواحيها. المهمّشون أحبابي الذين حاورتهم في رواياتي. عرفت الدم في الجزائر والتهريب والنشالين وعالمهم بين المغرب وتونس".
هذا العالم السفلي، إن جاز القول، يظهر كيف أن الرياحي يتعاطف مع المهمشين والأنذال، إلا أنه غالبًا ما توجه إليه تهمة البذاءة، وخاصة في روايته الأخيرة هذه، حيث تسود لغة القاع فتتكرر مفردات غير مهذبة مع اشتقاقاتها في عشرات المواضع.
اقرأ أيضاً: الكاريكاتيرالتونسي.. الثورة لم تمر من هنا
وعند سؤال "ملحق الثقافة" لورود تلك الألفاظ، أجاب الرياحي: "رواية تعج بالرذيلة والجريمة والأنذال، رواية هند وحياة وإيفو وبوخا ونادية. رواية تنضح شبقًا وتفوح منها رائحة الأجساد المشتهاة والخيانة وروح الثأر والغدر، بأي لغة ستخاطب؟ وكيف ستكون مستويات الحوار؟ ومن أي معجم ستقتات؟ حين يحدّثني البعض عن البذاءة، فإني أتصوّر الجهة المقابلة هي جهة كهنوتية ساكنة. أنا قلقٌ وبذيء أقترف أدبًا، والجهة المقابلة مؤدبة، لكنها لا تنتج إلا ما يوهم بالفضيلة وتطرد الأدب. الأنذال يحرّكون العالم وهم وقود الثورات، ومن دون أنذال لا توجد رواية ولا حياة".
الكل ضدّ الكل في "عشيقات النذل"، والرغبة بالانتقام متوثّبة، والطمع على أشدّه. كلّ شيء غاضب، واللغة متشنجة، لذلك غابت الحوارات الحميمية والعبارات الناعمة مقابل طغيان العبارات النابية البذيئة. إخفاق وخيبة وملاحقة للخيال والبياض والفراغ اللذين استمدّا مشروعيتهما من غياب الأجوبة.
أوهم الرياحي القارئ بأنه كتب رواية بوليسية، في حين تعاطى مع الجريمة بأبعاد فلسفية وتأمّلات اعتمدت الحفر في نفسية الشخصيات. يقول في ذلك: "كيف نستعمل نوعًا أدبيًا شعبيًا لتخريبه من الداخل، كي ننتج شيئًا آخر أعمق من ذاك النوع المتداول والشائع؟ الرواية الحديثة انطلقت من هذا. ماذا فعل سرفانتس في دون كيخوته غير السخرية من أدب الفروسية الذي كان سائدًا؟ سخر منه من الداخل. لا بدّ من السخرية السوداء والتشويق والتخلّص من ترهّل اللغة ونفايات السرد. إن أكبر آفة تصيب الروائي هي تراكم شحوم اللغة وغياب البرنامج السردي مقابل تورّم المشروع الأيديولوجي".
في "عشيقات النذل" مشاهد قصيرة ومكثفة غير مالوفة، رأى البعض أنها تحط من قيمة الرواية، ورأى آخرون أن ذاك هو سرّ قوتها وما ميّزها، لأن فيها دعوة الى المشاركة في الكتابة وملء البياض والفراغ. فالرياحي اختار على ما يبدو قارئًا حرًّا في ملء الفراغ وكان ممتلئًا ثقةً بأنه لن يخذله. ما حتّم السؤال عن القارئ، فأجاب الرياحي: "القارئ كائن أسطوري يظهر مثل الثعبان الذي لا يخرج إلى الصيد إلا متى أدركه الجوع. وشخصية الكاتب المعلّم الناصح الواعظ الذي يعرف كلّ شيء إلى زوال. لا أملك إجابة. أما الكتابة المشهدية فمنطلقاتها البصرية تذكّرك بالمسرح. أكتب بأسلوب خالٍ من الشحوم وأتعاطى رواية نباتية"، ثمّ يضحك وهو يستعرض كيف تخلّى عن الخبز والمعجنات واكتفى بتناول الخضر خلال كتابة الرواية. ثم يضيف "كان ذهني متوقدًا".
المحطة البحرية في تونس وقاعة المونديال ومطعم وحانة نهج مرسيليا وغير ذلك أماكن ارتقت الى مستوى الإلهام، بل إنها ساهمت في تطور الأحداث. فقد تعمّد الكاتب تثبيتها في محليتها، بينما تسابق روائيون آخرون إلى الفخر بأماكن عالمية. أية لعبة مارسها كمال الرياحي وهو يتعاطى مع المحلي والعالمي؟ يقول: "يبقى المكان متخيّلًا. ومن الطرائف أن هناك من أراد زيارة عمارة تونس البحرية فلم يجدها. كافكا لم يزر أميركا حين كتب "أميركا". الفضاء الروائي نتخيّله، لكن اختياري لبعض الأماكن أملته أحداث جدّت. تعرّضت لتمثال ابن خلدون وساعة شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة في روايتي "المشرط" و"الغوريلا" حين كان شارع الحبيب بورقيبة رمز السلطة وشريان الاستبداد، وبعد الثورة كان لا بدّ من الثورة على المركز الذي زالت قدسيته وهربت بالرواية إلى الأزقة التي اختطفت السيادة".