"صلاح سالم"... الطريق المصري الشاهد على انقلاب 3 يوليو

03 يوليو 2016
امتد قمع السلطة ليشمل كافة أطياف المعارضة (فرانس برس)
+ الخط -
لم يكن طريق صلاح سالم الرئيسي في قلب القاهرة، مساء الثالث من يوليو/تموز 2013، مجرد شارع ينتهي أمام بوابات مطار القاهرة، بل كان شاهداً على بداية مستقبل غامض للبلاد، فالطريق كان فاصلاً بين معسكر ينتفض غضباً لعزل أول رئيس مصري منتخب ديمقراطياً، محمد مرسي، وآخر تتراقص الألعاب النارية فوق رأسه احتفالاً بعزله. وطريق صلاح سالم، الذي يحمل اسم أحد قادة ثورة 23 يوليو/تموز 1952، الذي عُرف بفظاظته، هو أحد أهم طرق القاهرة، ويمتد لنحو 30 كيلومتراً بدءا من ميدان الجيزة حتى بوابة مطار القاهرة، المطار الرئيسي للعاصمة. وحتى وقت قريب، لم يكن ممكناً الوصول للمطار من دون العبور من خلال هذا الطريق.

يوم 22 يونيو/حزيران 2012، كانت أنظار ملايين من أنصار الثورة في مصر شاخصة نحو غرفة اجتماعات ضيّقة في فندق "الفيرمونت" الفخم، الواقع عند نهاية هذا الطريق، حين اجتمع لفيف من قادة القوى السياسية والرأي في مصر لدعم الرئيس المعزول، حالياً، محمد مرسي قبيل الإعلان الرسمي لنتائج الانتخابات الرئاسية في العام 2012.

إلا أن أحداً من الجبهة الوطنية لحماية الثورة التي التفت حول مرسي، آنذاك، لضمان تحقيق "الشراكة الوطنية والمشروع الوطني الجامع الذي يعبّر عن أهداف الثورة"، لم يلتفت إلى أن الجهة المقابلة للفندق ذي الواجهة الزجاجية الكبيرة، ما هي إلّا مقر للكلية الحربية التي ستغيّر المشهد بعد حوالي العام. لأيام وأشهر عدة، كان الطريق شاهداً على ما ستؤول إليه مجريات الأحداث في مصر، من قمع للمعارضة، وتعاظم دور مؤسسة الجيش، ومنع سفر عشرات الناشطين من سالكيه نحو المطار.

وبالعودة لصيف 2012 الحار، فإن الوعود التي قطعها مرسي بأن يضمّ الفريق الرئاسي وحكومة الإنقاذ الوطني جميع التيارات الوطنية، ويكون رئيس هذه الحكومة شخصية وطنية مستقلة؛ لم يتحقق الكثير منها. ثم أصدر مرسي إعلاناً دستورياً زاد اتساع الفجوة مع القوى السياسية. وقع الصدام الدامي بين الطرفين في ما عُرف إعلامياً في مصر باسم "أحداث الاتحادية"، حين اشتبك أنصار مرسي ومعارضوه حول قصر الاتحادية الرئاسي قرب طريق صلاح سالم في 5 ديسمبر/كانون الأول 2012. سالت الدماء وشُيّع 9 مصريين ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين، ومعهم الصحافي الحسيني أبوضيف. سبق ذلك، تحرك بعض ممن أعلنوا دعم مرسي للطرف الآخر، ثم ظهرت "جبهة الإنقاذ الوطني" المعارضة التي تشكلت آنذاك في مواجهة النظام المصري.

كبرت كرة الثلج، ثم سقط مرسي في 3 يوليو/تموز 2013 بعد 3 أيام من تظاهرات معارضيه التي تركزت أساساً حول قصر الاتحادية. مساء 3 يوليو/تموز 2013، حين أعلن وزير الدفاع، قائد الجيش، الفريق عبد الفتاح السيسي، ببزته العسكرية، بيان عزل مرسي من دون ذكر اسم الأخير، ولو لمرة واحدة، شهد صلاح سالم على معسكرَين سيقسمان شعب مصر لزمن طويل. فالطريق هذا، شكّل عازلاً طبيعياً بين مكان اعتصام أنصار مرسي في منطقة رابعة العدوية ومكان احتفال معارضيه، وخضع لحماية مشدّدة من مدرعات وآليات للجيش خشية أي اشتباكات بين الطرفين.









ويروي مراسل أجنبي، سمع البيان قرب صلاح سالم، أن الأجواء في المنطقة كانت "مجنونة" وفاصلة بين "فرح ومأتم". ويقول المراسل لـ"العربي الجديد" إنه "كان يمكن بوضوح سماع الهتافات المؤيدة لمرسي والمعارضة له بالقوة ذاتها". ولم يكن الدخول لاعتصام أنصار مرسي، أثناء البيان، مسموحاً، بينما كان الخروج مرحّباً به، على حدّ قوله. ويضيف المراسل أنه "حين دخلنا رابعة العدوية من شارع جانبي ضيّق معتم كانت الألعاب النارية فوق الاتحادية تنير لنا الطريق إلى حد ما. خرجنا بعدها برفقة بعض كبار السن ومررنا عبر صلاح سالم الذي بدأ يمتلئ بسيارات تضجّ بزماميرها، وكان الطريق بمثابة فاصل بين فرح ومأتم".

بعد يومين، بصم الطريق الذي يضم مؤسسات حكومية مثل هيئة الاستثمار، والجهاز المركزي للمحاسبات، وأرض المعارض، ونوادي الجيش المختلفة، أول واقعة قتل بين المتظاهرين بواسطة قوى الأمن. في 5 يوليو/تموز، فتحت قوات نادي الحرس الجمهوري في طريق صلاح سالم النيران على خمسة من أنصار مرسي فأرْدتهم قتلى على الفور. وكان أنصار مرسي يقصدون التظاهر أمام النادي لظنّهم أن الجيش يحتجز مرسي داخله.

بعد 3 أيام قُتل نحو 51 من أنصار مرسي أمام النادي ذاته. الدماء التي سالت حينها أوضحت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأزمة السياسية في البلاد لن تُحلّ، وأن الطريق نحو المستقبل سيخضبه الدم. وهذا ما حصل. وبدا ذلك بشكل أكثر وضوحاً يوم فض اعتصام أنصار مرسي بميدان رابعة العدوية في 14 أغسطس/آب 2013، إذ سال مزيد من دماء المئات نحو الطريق الذي لم يكفّ المبعوثون الدوليون لاحتواء الأزمة عن سلوكه طوال صيف رمضان الحار.

ومن صيف 2013 حتى صيف 2016، بينهما عامان من حكم السيسي، بقي طريق صلاح سالم شاهداً على مستقبل جديد للبلاد. فالمؤسسة العسكرية تعاظم دورها الاقتصادي، إذ عهد لها السيسي بتنفيذ الغالبية العظمى من المشاريع القومية التي أطلقها. وعلى الرغم من أنه يصعب تقدير حجم اقتصاد الجيش في مصر، تشي اللوحات الإعلانية على ضفة صلاح سالم بكل شيء. فتلك اللوحات الإعلانية الضخمة انتقلت من رصيف صلاح سالم، حيث التبعية التجارية والقانونية لمحافظة القاهرة، لما وراء أسوار تلك النوادي حيث يستأثر الجيش بأي مردود مادي منها. وكبرت تلك اللوحات وتضاعفت حتى أصبح حجمها بارزاً وغير ملائم لإحداثيات الطريق.

وامتد قمع السلطة ليشمل كافة أطياف المعارضة حتى الأسماء التي "باركت" عزل مرسي. ومن بين التضييق على حرية الرأي والتعبير، والحق في التظاهر والاجتماع، وغيرها من الحقوق السياسية المختلفة، برز، أخيراً، انتهاك المنع من السفر الذي شمل عشرات الحقوقيين والناشطين والأكاديميين. وهو ما قالت عنه منظمة "هيومن رايتس ووتش" إنّ "مصر تحوّلت إلى سجن كبير"، في تقرير لها نُشر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مشيرة إلى توثيق 32 حالة في ذلك الوقت.

وكان آخر الممنوعين من السفر، الناشطة الحقوقية مزن حسن، مديرة مؤسسة نظرة للدراسات النسوية (منظمة مجتمع مدني مصرية)، والتي منعتها السلطات في 27 يونيو/حزيران الماضي، من السفر، لإدراج اسمها في القضية المعروفة إعلامياً بـ"قضية التمويل الأجنبي"، والتي تستهدف عدداً كبيراً من أبرز نشطاء المجتمع المدني. وسلك عدد من هؤلاء النشطاء طريق صلاح سالم حتى بوابة المطار، إلا أنهم مُنعوا من السفر، فعادوا إلى ديارهم من الطريق ذاته الذي شهد على القمع والدم.



المساهمون