"سوسبيريا" وسؤال إعادة الإنتاج: براعة التجديد الإيطالي

15 نوفمبر 2018
داكوتا جونسن في "سوسبيريا" للوكا غوادانينو (فيسبوك)
+ الخط -
تُثير إعادة إخراج أفلامٍ قديمة أسئلةً شائكة كثيرة، خاصة أن غالبية الأفلام المُعاد إخراجها لم تكن على المستوى المطلوب في جوانب عديدة، مُقارنةً بالأفلام الأصلية المأخوذة عنها. يبرز هذا جليًا عند إعادة إخراج أفلام ناجحة أو تُحفٍ سينمائية. هناك ما هو حتمي فيما يتعلّق بهذه النوعية من الأفلام المُعاد صناعتها: يستحيل تجنُّب المُقارنة بين القديم والحديث، أي بين الأصل وإعادة الإخراج. 
أبرز الأسئلة الشائكة المنبثقة من تلك المقارنة، هو: لماذا إخراج نسخة جديدة لن تُضيف، أو لن تتفوّق على الأصل، أو على الأقلّ تتّخذ من الاختلاف نهجًا لها؟

الأمر مُختلف كليًا بخصوص "سوسبيريا" (2018) للإيطالي لوكا غوادانينو (1971)، المأخوذ عن الأصل الذي حقّقه داريو أرجنتو (1940) عام 1977. يمكن القول إن نسخة غوادانينو أجابت عن أسئلة كثيرة. فمقارنة النسخة الحديثة بنسخة أرجنتو تكشف فرقًا هائلاً بينهما، رغم الاحتفاظ بالعنوان نفسه، وبأسماء الشخصيات الرئيسية والخيوط الأساسية ومسرح الأحداث وزمنها. وهذا متأتٍ من اشتغالٍ مُذهل لغوادانينو على مُقوّمات فيلمه: سيناريو جيد (ديفيد كايكافيتز)، مع الحرص على شحنه بتفاصيل ذات امتدادات فانتازية مُثيرة ومُرعبة، وموسيقى تصويرية رائعة (توم يوركي) نافست موسيقى النسخة القديمة (أرجنتو نفسه متعاونًا مع غوبلن). هناك أيضًا التصوير (سايمبهو موكديبروم)، والاستعمال المتنوّع للعدسات، وحركة الكاميرا الطائرة والزاحفة، القريبة والبعيدة. التنوّع كبيرٌ في توظيف الكاميرا، ما أثرى مَشَاهد عديدة. بالإضافة إلى حضور قوي للمؤثرات الخاصة بالغة الحداثة والابتكار.

هذه المفردات الثرية وغيرها (المونتاج مثلاً الذي أنجزه والتر فازانو، خاصة في قاعة الرقص وأداء الرقصات) مخالفة للنسخة الأصلية، بل متجاوزة إياها.

المُثير أيضًا أن نسخة داريو أرجنتو، رغم مرور 4 عقود عليها، لا تزال مُشوّقة وصامدة فنيًا وحِرَفيًا، وإن يكن فيها ضعف مُؤثّرات خاصة وألوان فاقعة وبدائية، وخلق الرعب عبر الموسيقى وارتفاع صوتها. للسيناريو قوّة مُتمثّلة أساسًا في غموضه. فداريو أرجنتو ـ أحد أساتذة أفلام الرعب في السينما الإيطالية ـ لم يصنع فيلم رعب في نسخته الخاصة بـ"سوسبيريا"، بل جعل نسخته تلك فيلمَ غموضٍ وإثارة مُحكما ومُشوّقا ومُكثّفا. أما نسخة لوكا غوادانينو، فلم يكن للغموض مكانة كبيرة فيها، مع أنّ الإثارة والرعب والأداء التمثيلي سمات مُميّزة لها. بالإضافة إلى تعدّد الخيوط والحبكات الفرعية والبُعد عن التكثيف.

إذًا، تصعب المقارنة بين النسختين رغم وحدة موضوعهما والاشتراك بأحداثٍ كثيرة. هذا يعني أنّ الإعادة لا تُضاهي النسخة القديمة فقط، كالمعتاد، لأنّ العكس صحيح: نسخة أرجنتو جيّدة جدًا في سياقها الزمني وأحداثها وتطوّرها وبنيتها، ونسخة غوادانينو بالغة الجودة في جوانب كثيرة: تحرّر السيناريو وابتعاده عن القديم بشكلٍ لافت للانتباه، حتّى بمُقارنته بأفلام رعب وإثارة أخرى مُعتادة.

تدور أحداث النسخة القديمة في عصر قوطي، بينما تبدو النسخة الحديثة شديدة المعاصرة، ما يتنافى مع كونها (الأحداث) في الفيلمين تجري في سبعينيات القرن الـ20. يشترك الفيلمان في أنّ قصتهما متعلّقة بمدرسة ألمانية تعلِّم الرقص وتدرّب عليه، وتضم نخبة من الراقصين والراقصات. تلك الجُزئية لم يتوقف داريو أرجنتو عندها كثيرًا، بل كانت مُجرّد مَشَاهد عابرة. في حين أن الرقص، الحديث منه خاصة، بتدريباته واستعراضاته كلها، هو جوهر نسخة لوكا غوادانينو، وتوظيفه فيها بالغ القوة، وليس لمُجرّد الاستعراض. أما الهدف منه، فإبراز السيطرة على أجساد الراقصات، والتحكّم بها. تلك إشارة من ضمن إشارات كثيرة؛ فمدرسة الرقص في نسخة غوادانينو تضمّ طالبات فقط، بينما النسخة القديمة تضمّ ذكورًا وإناثًا.

اشتغل غوادانينو وكاتب السيناريو كايكافيتز على الخيوط الغامضة كلّها في نسخة أرجنتو. طوّراها وعمّقاها وحمّلاها رعبًا وإثارة. لذا، لا غموض في النسخة الحديثة، بل رعبًا كامنًا في التفاصيل، وإثارةً وتشويقًا منذ البداية حتى النهاية، بالإضافة إلى مَشَاهد كثيرة من الدماء والعنف المُرتكَب بدم بارد. هذا غير موجود في النسخة القديمة. لذا، فإنّ النسخة الحديثة أطول بـ60 دقيقة من النسخة القديمة، نظرًا إلى الاشتغال الدقيق على التفاصيل، وجعل الغموض أوضح، وتحميله لمسات من الرعب والعنف كانت مفقودة في النسخة القديمة.

لا تقدِّم حبكة النسخة الجديدة فيلم رعب خالصًا، فهي مُحَمَّلة بإحالات ورموز تاريخية كثيرة، وبأحداث عنف سياسي مرتبط بسبعينيات القرن الـ20. والفيلم جانَبَ التوفيق كثيرًا في تلك الجزئية، وفي كل ما يتعلق بالسياسي المعاصر آنذاك، كالـ"هولوكوست" و"منظّمة بادر ماينهوف" وغيرهما. مع ذلك، أبرزت الحبكة بجلاء صراع الخير والشر، والقسوة البشرية وسُلطة التدمير، ونقد الأنظمة الفاشية والديكتاتورية وكافة أنظمة القمع، العاملة على اضطراب البشر وتشويشهم واستنزافهم، من دون الاكتراث بهم. بينما النسخة القديمة لم تكن مُحمَّلة بهذه الإحالات التاريخية والسياسية كلّها، وإن لم تخلُ أيضًا من رموز وإشارات أضفت غموضًا كثيرًا عليها.

تروي الحكاية ما يحدث مع سوزي بانيون (داكوتا جونسون)، الراقصة الشابة التي تأتي إلى برلين الغربية للتدرّب على يدي الراقصة المُخضرمة المُتقاعدة مدام بلان (تيلدا سوينتون)، في مدرسة "هلينا ماركوس للرقص" ذائعة الصيت. ولبراعتها الواضحة، تلفت سوزي الأنظار إليها، وتحلّ محل بطلة الفرقة السابقة، المختفية في ظروف مُريبة، بعد إثارتها إعجاب مدام بلان، الغامضة والمُتسلّطة. مع تطوّر الأحداث، يتضح أن المدرسة واجهة لمُمارسة سحر وشعوذة، تديرها طائفة غريبة من الساحرات، اللواتي يستغلّلن الفتيات. تدريجيًا، تكتشف سوزي، وصديقات قليلات لها، أمورًا غريبة وكثيرة عن المدرسة، وعن القائمات على إدارتها، إلى أن ينجلي الأمر تمامًا، مع النهاية، بفضل سوزي المُتمرِّدة.
دلالات
المساهمون